عندما تولى العماد ميشال عون السلطة من خلال حكومة عسكرية انتقالية مبتورة، همس لصحافي سأله عن موعد انتخاب رئيس جديد للبلاد خلفاً للرئيس أمين الجميل: اما أكون أنا رئيساً للجمهورية واما لن تكون هناك جمهورية.
والواقع أن عون نجح، في أن يصبح رئيساً للجمهورية وأن يهشم الجمهورية معاً، وفي تشكيل بيئة حاضنة تنظر اليه كما تنظر البيئة الشيعية الى حسن نصر الله، أي النظرة التي تصل الى حدود العبادة المطلقة الرافضة لأي تشكيك من أي نوع أو مساءلة من أي جهة.
يقول علماء نفس في هذا المجال إن عون ومنذ بناء زعامته في العام ١٩٨٨، يتعامل مع جمهوره بصفة “سماوية” أكثر منه بصفة بشرية، معتبراً أنه يقود جمهوراً يفضل ابتلاع أي شيء، والتسليم بأي شيء على الاعتراف بأنه كان مخطئاً في رهاناته ومضللاً في خياراته.
وكان عون مصيباً في نظرته هذه من خلال حدثين موثقين، الأول عندما خسر ثلاث حروب متلاحقة بين العامين ١٩٨٨ و١٩٩٠ أي حرب “التحرير” التي فتحت الطريق نحو “الطائف”، وحرب “الالغاء” التي استنزفت الجيش عدة وعديداً وحرب “١٣ تشرين” التي فقد فيها المسيحيون “الجيش المسيحي” الذي كان يسهم في حماية “المنطقة الشرقية” من بيروت، والثاني عندما خرج من القصر الجمهوري رئيساً حزبياً أكثر منه زعيماً وطنياً.
ويضيف هؤلاء العلماء ان عون نجح على الرغم من ذلك في أن يبقى في نظر أنصاره ذلك القائد الذي لا يمكن أن يفشل في شيء، والمنقذ الذي لا يمكن أن يستقيم أمر في البلاد من دونه، لا بل “الخالد” الذي لا يشيخ ولا يوهن وربما لا يموت.
وقد يكون في هذا العرض ما لا يقبله أنصار عون و”التيار الوطني الحر” انطلاقاً من “مدرسة” تكاد تكون شاملة وتصر على لعب دور الضحية عندما يفشلون، ودور المدين عندما يصدرون الأحكام، ودور المكابر عندما يخيبون، لكن التاريخ هو التاريخ، والحقائق هي الحقائق، والرأي العام ليس اتجاهاً وحيداً يديره البعض كما يشاء وساعة يشاء.
وقد يقول قائل، كفى هذا الرجل نبشاً في أدراجه وسيرته ومساره بعدما خرج من السلطة وعاد الى حياته العادية محاطاً بمن تبقى من أنصاره وأزلامه وحراسه.
وقد يكون في هذا القول الكثير من الحقيقة الظاهرية، لكن الحقيقة الخفية تكمن في أن الرجل يعيد التاريخ مرة جديدة من خلال أمرين: الأول تحويل منزله في الرابية الى ثكنة مدنية يحاول من خلالها ترميم ما تشقق من هيبته، والثاني ظهور ما يمكن أن يكون “التلميذ الأشطر” في مدرسة ميشال عون، أي جبران باسيل، الصهر الذي يؤمن بأن القوة هي الحق وبأن الرأي العام ليس الا وجهة نظر وحسب.
ويجمع الكثير من المراقبين والمحللين على أن باسيل قد يكون أكثر عدائية من عمه في حال توليه السلطة، مؤكدين أن الرجل ينطلق في حركته السياسية من رعونة فاقعة لا تقيم أي وزن لأي حساسيات أو خصوصيات أو محرمات.
ويرى هؤلاء أن باسيل، يطمح كي يكون كميل شمعون وبشير الجميل وميشال عون في شخص واحد على المستوى المسيحي، وحسن نصر الله على المستوى الشيعي، ورياض الصلح على المستوى السني، وجمال عبد الناصر على المستوى العربي، مؤكدين أنه لن يتوانى عن أي وسيلة مهما بلغت خطورتها، للوصول الى قصر بعبدا، معتبراً أنه يملك فرصة أخيرة لا يمكن أن تتكرر بعد رحيل الجنرال.
والواقع أن الصهر يرفض التسليم بانتهاء عهد كان فيه ثاني المهابين بعد حسن نصر الله، ويرفض الاقرار بحجم التراكمات التي نتجت عن سياسات فوقية وكيدية وفردية لم توفر أحداً لا في الشارع المسلم ولا في الشارع المسيحي.
ولعل أكثر ما يغيظ باسيل، امتناع “حزب الله” عن تبني شعار “جبران باسيل أو الفراغ”، مصراً على شعار “التوافق أو الفراغ” في العلن وسليمان فرنجية أو التعطيل في السر، معتبراً أن نصر الله الذي أخذ البلد في مقابل ترئيس الجنرال يمكن أن يفعل ذلك من خلال ترئيسه أولاً، وتمديد “اتفاق مار مخايل” ثانياً، والاحتفاظ بغطاء مسيحي شعبي ونيابي ثالثاً.
لكن ما يجهله باسيل يكمن في أن “حزب الله” ليس حركة عاطفية بل حركة عقائدية تقوم على حسابات دقيقة، وأن نصر الله لا يبدو في وارد الرهان على شريك متهور يمكن أن يجره الى المزيد من الخسائر الشعبية في مكان والكمائن الأمنية في آخر.
وأكثر من ذلك، يجهل باسيل أن الكلمة الفصل لم تعد في يد نصر الله الذي فقد الغالبية في البرلمان الجديد، والذي تعرض للتشكيك بعد اتفاق النفط والغاز مع اسرائيل، والذي يراقب حركة الشارع المتفاقمة في ايران من باب القلق هذه المرة لا باب الاستخفاف.
وأكثر من ذلك أيضاً، لا يريد باسيل أن يصدق أن “حزب الله” لن يخوض حرباً أهلية من أجله، ولن يتجاهل أو يهمل مصالحه من أجل طموحاته، انطلاقاً من قناعة لديه بأنه سدّد دينه للعم والصهر معاً، وأن غداً يوم آخر مع رئيس آخر وعهد آخر.
وهنا لا بد من السؤال: من يهدئ باسيل الذي يبدو مستعداً لاشعال أزمة تلو أزمة تحت الشعار نفسه: اما أكون رئيساً للجمهورية واما لا تكون هناك جمهورية؟
الجواب ليس بعيداً جداً، فقد جاء في أمرين لافتين، الأول أمني تجلى في ما حدث في محطة “ام.تي.في” وقبلها في “ميرنا الشالوحي” ونشر صور لما بدا أنه مشروع ميليشيا جديدة، والثاني سياسي تجلى في قول باسيل ان أحداً لا يمكن إخضاعه لا من الداخل ولا من الخارج، مشيراً بذلك الى كل من “حزب الله”والولايات المتحدة معاً.
وبذلك يكون باسيل قد أعاد لبنان الى الخيارات الانتحارية التي انتهجها الجنرال، أي الخيارات التي تنشد السلطة بأي ثمن، محاولاً الايحاء لجمهور “التيار”، بأن انتهاء العهد لا يعني انتهاء الدور، وأن القوة التي يمثلها عون ستستمر فيه وبه.
في الانتظار ماذا يمكن أن يفعل “حزب الله” حيال حليفيه، فهو لا يستطيع الاستغناء عن باسيل، من باب الوفاء ولا التمسك به من باب الحرج، ولا يستطيع الاستغناء عن سليمان فرنجية من باب الوعد ولا التمسك به من باب القوة، ولا يستطيع، السيطرة على أحدهما أو على الاثنين معاً، بعدما أبلغا اليه أن زمن “الأول تحول”، وأن ما كان يصلح في الأمس لم يعد صالحاً اليوم؟