هل قرر جبران باسيل أن يضرب في كل الاتجاهات من دون أي حرص على أي حليف أو أي تحالف أو أي خط أحمر مهما كانت حساسيته أو خطورته؟
وهل وصل الرجل الى اقتناع حاسم بأن قصر بعبدا دونه عقبات وحسابات أو بأن حظوظه الرئاسية لم تنتفِ بعد، أو بأن من يتولون حياكة الرئيس العتيد لا يستطيعون الحكم من دونه، سواء كان معترضاً أو موافقاً؟
لا شك في أن كل ما تقدم ينطبق على صهر الرئيس السابق ميشال عون الذي رأى فيه نسخة تكاد تكون طبق الأصل عن شخصيته التي لا ترى في الآخرين ما يضاهيها قوة أو شعبية أو قدرة أو أحقية، ولا ترى في أخطائها أو عثراتها ما يستوجب الاعتكاف أو الاستقالة أو حتى مراجعة الذات.
وفي قراءة سريعة في مواقف باسيل يتوصل المراقبون الى انطباع يكاد يكون شاملاً، وهو أن الرجل ليس قادراً على تحمل العيش خارج السلطة المطلقة، ولا خارج جناح عمه، ولا تحت جناح أحد حتى لو كان من أقرب معاونيه وأكثرهم طواعية، مؤكدين أنه من النوع الذي يعتبر أن كل الوسائل مباحة اما للبقاء في الضوء واما للوصول اليه وأنه، كما عدد كبير من زعماء لبنان، صاحب رسالة “سماوية” لا شبيه له ولا خليفة.
ويرى هؤلاء، أن باسيل يجد نفسه في موقع لا يسمح له بالانكفاء أو التنازل، معتبراً أنه تفوق على كل الآخرين في كل المجالات وعلى كل المستويات منذ دخل جنة الحكم في العام ٢٠١٠، وأنه نجح في اختصار القيادات المسيحية والتحول الى “الند المسيحي الأقوى” في مواجهة القيادات الاسلامية سواء السنية أو الشيعية أو الدرزية.
ويرى المراقبون أيضاً أن باسيل مؤمن بأنه أعطى “حزب الله” ومحور الممانعة ما لا يمكن لأحد أن يعطيه سواء في السياسة أو في الخيارات أو في التغطيات الرسمية والشعبية، وأنه تلقى ما تلقاه من حملات واتهامات وجنى عقوبات نتيجة هذا الأداء وهذا التموضع، وأن مسألة المفاضلة بينه وبين سليمان فرنجية أمر غير منطقي وغير مبرر وغير عادل، ولا يستند الى أي وقائع استفاد منها حسن نصر الله تتعدى التصريحات والغزليات الهوائية.
والواقع أن باسيل، سواء عن وعي أو عن جهل، لا يريد أن يصدق أن حسن نصر الله لا يحمل عصا سحرية يجترح بها ما يشاء، ولا أن يقتنع بأن ظروف “حزب الله” وايران في العام ٢٠٢٢ تختلف عن ظروف العام ٢٠١٦، ولا أن يقر بأن لبنان اليوم، وبعد تعويم ملف النفط والغاز، لم يعد ساحة حصرية لمحور الممانعة، وأن من كان ينفض يديه من وحل هذا البلد عاد اليه محاولاً حجز مقعد له في خريطته الاقتصادية والاستثمارية والسياسية.
وأكثر من ذلك، يرفض باسيل أن يقتنع بأن ما يمكن أن يحول دون عودته الى بعبدا رئيساً شرعياً لا رئيس ظل، ليس العقوبات الأميركية كما يروّج في أوساطه الحزبية والشعبية، بل صفقاته المشبوهة وأداؤه الذي اصطدم بكل الأحزاب والتيارات والطوائف من دون استثناء، ورعونته التي كادت أن تجر البلاد الى الفتنة، وتجر معها “حزب الله” الى محطات أمنية خطيرة هو في غنى عنها.
والواقع أيضاً أن باسيل، تحول من حيث يدري أو يدري، الى سمير جعجع آخر من حيث كثرة الأعداء والخصوم، مع فارق أساس يتمثل في أن جعجع عرف حظوظه فابتعد على مستوى الشخص، في حين تجاهل باسيل سجله البعيد والقريب، واقترب من كرة نار تحرق البيت الممانع من الداخل بعدما أحرقته من الخارج.
والواقع أيضاً وأيضاً أن هناك عالمين مختلفين بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”، اذ أن الأول يحتاج في ظل ما تعانيه ايران من ثورة شبابية خطيرة في شوارعها ومدنها وعزلة دولية تتوسع يوماً بعد يوم، الى رئيس مسيحي “موثوق” ولو من دون قاعدة شعبية كبيرة سواء كان فرنجية أو قائد الجيش، بدل رئيس يحظى بقاعدة شعبية كبيرة ويعاني أثقالاً من السلبيات والنقاط السود، في حين يرى الثاني أن “حزب الله” يحتاج الى رئيس موثوق وشعبية كبيرة وكتلة نيابية يعتد بها معاً، اذا أراد فعلاً أن يطمئن الى القصر والشارع معاً.
وانطلاقاً من هذا الاقتناع، فقد باسيل السيطرة على خيبته فارتكب واحدة من أخطر أخطائه عندما تنصل من “مكرمات” حسن نصر الله عليه محاولاً الايحاء لمن يهمه الأمر بأن كل ما توصل اليه على مستوى السلطة والقرار كان جهداً فردياً وحراً لا يدين به لأحد، الأمر الذي شكل في أوساط “حزب الله” صدمة مشوبة بالغضب ترجمها نصر الله عندما أعلن أنه لا يحتاج الى حماية أو غطاء من أحد.
ويقول مصدر قريب من “حزب الله” ان الأخير لن يخوض حرباً أهلية مع حركة “أمل” من أجل جبران باسيل ولا مع المعارضة بكل أطيافها، ولا مع الأميركيين وحلفائهم ولا مع السعوديين وحلفائهم، ولا مع المجتمع الدولي، في وقت يبحث عن سبيل سياسي يستفيد منه لترئيس مرشح شبه “محروق” لا مرشح “محروق ” تماماً من جهة، وتستفيد منه ايران من جهة ثانية لفتح ثغرة أو ثغرات في الجدران التي تحيط بها من الداخل والخارج معاً.
ويضيف: عبثاً يحاول باسيل كسر قرار “حزب الله”، سواء من خلال العمل لاسترضاء الرئيس نبيه بري خلف الكواليس، أو توسيط قطر وأميرها، أو تحريك الديبلوماسية الفرنسية، أو الانفتاح على الخليج، أو التواصل مع الأحزاب والطوائف اللبنانية، مشيراً الى أن نصر الله خرج من عهد عون مصاباً بجروح شعبية وسياسية عدة، ولن يعيد الكرة مع الصهر الذي يمكن أن يخرجه بعد ست سنوات مهشماً أو منبوذاً في أفضل الأحوال.
وأمام هذا المشهد القاتم، لم يبق أمام الصهر الا واحد من خيارين: اما الانصياع تماماً الى مشيئة “حزب الله”، وهذا يعني القطيعة مع الأميركيين والخليج وربما العالم، واما الانفصال عنه وهذا يعني التخلي عن السلاح الذي جعل منه زعيماً ومن عمه رئيساً ومن تياره كتلة نيابية وازنة تدين بالفضل في معظم مقاعدها للصوت الشيعي العائد الى “حزب الله” راضياً والى حركة “أمل” مرغماً.
انه زمن الاختيارات الصعبة بالنسبة الى باسيل، فإما ينضم الى عمه في “استراحة محارب”، واما يواصل حراكاً عشوائياً في كل الاتجاهات بحيث يصبح الحليف عدواً ويصبح العدو أكثر عداوة وتصبح الطريق الى بعبدا أصعب من الطريق الى جهنم.
سلاحان يملكهما باسيل في مواجهة زعيم “المردة”، وهما أولاً تجريده، وبتحالف قسري مع جعجع الذي يجد نفسه للمرة الثانية على التوالي في مواجهة فرنجية، من الغطاء المسيحي الوازن، وثانيهما الكتلة النيابية التي يحظى بها في البرلمان الجديد، والتي يعتقد أن “حزب الله” لا يقوى على الاستغناء عنها لتدعيم من يختاره لقيادة العهد المقبل.
فهل يحولها باسيل، أو الولد الذي حكم بلداً ذات يوم كما يتردد في أوساط عارفيه، الى كتلة وسطية مرجحة يضغط بها على الجميع، أم يتوصل مع “حزب الله” الى اتفاق يعطي نصر الله ثقلاً نيابياً وحكومياً كافياً في مقابل تعيينات جوهوية تبقيه “رئيس ظل” لكن من الرابية هذه المرة وليس من بعبدا؟