بعد شهر ونيف على دخول لبنان في الشغور الرئاسي والذي باتت أسبابه معروفة للقاصي والداني، فإن السؤال البديهي الذي يطرح نفسه بعد كل يوم خميس يجتمع خلاله نواب الأمة في برلمانهم في محاولة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، إلى أين تذهب هذه الجمهورية في ظل غياب أي حس بالمسؤولية لدى المسؤولين؟ وأي أمل يزرعونه في نفوس اللبنانيين الذين باتوا لا يفكّرون سوى بالرحيل حتى إلى “جمهورية الموز” التي على الأقل يستقيم فيها الدستور ويحكمها القانون؟
صحيح أن دستور الطائف اتفق المشرّعون على وضعه بهدف إنهاء الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان على مدى 15 عاماً ولتصحيح ما كانوا يعتبرونه خللاً في النظام السياسي الشبيه بنظام “الملكية” والتي كانت تضع رئيس الجمهورية “الماروني” فوق جميع السلطات التي تتقاسمها باقي الطوائف في لبنان، إلا أن الأسباب التي أدت إلى عدم تطبيقه كثيرة وفي مقدمها وجود النفوذ السوري المهيمن على كل القرارات السياسية والأمنية في البلاد ما جعل من تطبيق الدستور “كمبيالة” تستحق لصالح دمشق وأطماعها في لبنان، وثانيها لأن بعض “الموارنة” وفي مقدمهم الرئيس السابق ميشال عون وفريقه “السلطوي” كانوا يحلمون بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء والعودة بالدولة إلى نظام ما قبل الطائف أو على الأقل تحويله إلى نظام رئاسي.
أول “أحلام” هذا الفريق العوني كان في اعتماد قانون انتخابي يتيح “للمسيحيين” انتخاب نوابهم كما زعموا بهدف “استعادة” ما كانوا فقدوه بسبب الطائف، وحتى لا يكون هناك نواب “ودائع” لدى الطوائف الأخرى، وهم بذلك كانوا يعيّرون الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي كان حضوره الطاغي يجعله يتحكم في انتخاب النواب المسيحيين في مختلف الدوائر الانتخابية التي كان يتمتع بقوة شعبية فيها، كما وليد جنبلاط “حندوقة” عينهم في الجبل والذي كان يتحكم بانتخاب النواب المسيحيين في قضاءي الشوف وعاليه على حد زعمهم.
فجاء هذا الفريق ودغدغ مشاعر باقي الفرقاء المسيحيين في محاولة لفرض قانون انتخاب أسموه “القانون الأرثوذكسي” بحيث يقترع الناخبون حسب انتمائهم المذهبي لنواب مذهبهم فقط، غير أن محاولات تمريره في مجلس النواب سقطت ولم يبصر النور، لكن إرادة الفريق نفسه كانت مصممة لدرجة أنه تقدم باقتراح قانون فصّل على قياسهم فقط وأسموه القانون النسبي، وأضافوا إليه بدعة الصوت التفضيلي، فأبصر النور القانون 44/17 الذي اعتمد في انتخابات العام 2018 وهو قانون “مسخ” والحقيقة أنه لم يحقق الغاية منه أي انتخاب المسيحيين لنوابهم سوى بنسبة ضئيلة بحيث لا يزال “التيار الوطني الحر” يستجدي “حزب الله” والناخبين الشيعة لايصال نواب التيار، في حين أن مسيحيي الجبل ليس بامكانهم التخلي عن “شراكة انتخابية” مع وليد جنبلاط لايصال نوابهم، وكذلك هي حالهم في الشمال حيث أنه من دون أًصوات السنة في طرابلس والضنية وعكار، لن يكون بمقدور هذه القوى إيصال نوابها المسيحيين إلى البرلمان.
لكن بعدما أعلن الرئيس سعد الحريري “تعليق” عمله السياسي وعدم الترشح شخصياً أو أي من أعضاء كتلة “المستقبل” إلى الانتخابات النيابية التي جرت في أيار الماضي، وبعد تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة التي أِشرفت على الانتخابات النيابية وتحولها إلى حكومة تصريف أعمال بعد صدور نتائج الانتخابات، بدت الصورة البرلمانية مختلفة عما كانت عليه على الأقل بالنسبة الى الفريق الذي كان يتحكّم بإدارة المجلس أي “حزب الله”، والفريق العوني الذي كان يتكّل على الحزب لتمرير مطالبه، فعادت الخطة الخبيثة التي كان يلجأ إليها الفريق العوني أمام كل محطة مفصلية من الحياة الدستورية، وهي التعطيل، فكما عطّل الحزب البلد سنتين وخمسة أشهر لإيصال ميشال عون إلى قصر بعبدا، وكما عطّل عون مراراً وتكراراً تشكيل الحكومات “كرمال عيون الصهر”، عاد إلى تعطيل جهود الرئيس ميقاتي لتشكيل حكومة جديدة مكتملة الصفات تتولى صلاحيات الرئيس وكالة عند انتهاء الولاية الرئاسية، وها هو اليوم بشخص الصهر الميمون جبران باسيل يعطّل انتخابات الرئاسة لأن حظوظ الصهر معدومة في خلافة عمه في بعبدا.
لا يتحمّل الفريق العوني وحده مسؤولية التعطيل، فصاحب الارادة الأقوى أي “حزب الله” الذي لا يزال يتمتع بقدرة كبيرة على إدارة البلاد وفقاً لبرنامجه يتحمّل المسؤولية أيضاً، لكن إلى أين يسيرون بلبنان ويهددون مستقبل أبنائه؟ والمثير للسخرية أنه عندما يجد الحزب مصلحة في أن يدعو رئيس حكومة تصريف الأعمال إلى جلسة حكومية تقوم قيامة الفريق العوني ويتهم “السنة” بمحاولة “الاستيلاء” على الصلاحيات “المارونية” المتمثلة برئاسة الجمهورية. هذا جنون وعبث لا تستقيم معه الأمور.
ومن الطبيعي إذن أن يسأل المواطن العادي كما المتابع لمجريات “المناكفات” السياسية إلى أين تسير الجمهورية اللبنانية؟ هل اختفى من الوجود “رجال الدولة” الذين كانوا بالحد الأدنى يضعون المصلحة العامة فوق مصالحهم الشخصية، ويتوافقون على إبقاء الأمور “مضبوطة” كي لا تنفلت ويختلط “الحابل بالنابل” وتضيع الدولة ومؤسساتها؟
“وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر”، أين رجال الدولة أمثال كميل شمعون وكمال جنبلاط، ريمون اده وفؤاد شهاب، أين المشرّعون أمثال أدمون رزق ونصري المعلوف، أنور الخطيب وبهيج تقي الدين، أوغست باخوس وحسن الرفاعي؟
الدعوة إلى انتخاب رئيس للجمهورية في أسرع وقت ممكن هي لسان حال الجميع، وعلى القوى السياسية وضع المصلحة العامة فوق كل المصالح الأخرى والسير بالعملية الدستورية لانهاء الوضع الشاذ الذي وصلنا إليه وإعادة بناء الدولة ومؤسساتها للحفاظ على الجمهورية.