النهاية المبكّرة للنواب الذين خطفوا وجع الناس خلال حراك ١٧ تشرين، كانت متوقّعة، حتى ما قبل الانتخابات النيابية، في ظل الأفكار والتوجهات والرؤى المتباعدة سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً بين المرشحين الذين خاضوا غمار الانتخابات تحت مسمى “التغيير”، من دون أن يكونوا على قدر المسؤولية التي راهن عليها من انتفض في وجه السلطة المسؤولة عن الانهيار الاقتصادي والأزمات السياسية، والرافضة للاصلاحات الجديّة، والتي ضغطت على القضاء لمنع التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت.
وهذا ما تأكّد خلال تشكيل اللوائح، بطريقة هجينة وببرامج سياسية رمادية، بعيداً من اتخاذ مواقف حازمة وجذرية، بسبب الصراع بين كلّ المجموعات المصنّفة في خانة “التغييريبن”، الأمر الذي دفعها الى إجراء تسويات بين مرشحيها لارضاء كلّ الأطراف المتصارعة، بحيث تشكلت اللوائح بشكل بازارات من مرشحين لا تجمع بينهم أيّ توجهات أو مبادئ سياسية مشتركة، ما عدا التشابه والتطابق في البحث عن أدوار لهم، تلبي أطماعهم الوصولية والانتهازية!.
أما فوز هؤلاء النواب، فإنّه لا يعدو كونه مجرد سياق اعتراضي، بحيث أنّ المشترك بينهم هو خصائص التصويت لهم، وليس برامج ورؤى وخلفيات، لأنّ الأصوات التي حصدت لهم الفوز، هي أصوات اعتراضية بهدف تسجيل موقف معارض ضدّ الأحزاب التقليدية والسلطة السياسية المهيمنة على البلاد، حتى وإن كان أصحاب تلك الأصوات غير مقتنعين بكلّ حيثيات الحركة الانتخابية للتغييريين.
وبعد الانتخابات، سرعان ما انفضح أمر النواب التغييريين، عندما فشلوا في تشكيل كتلة متراصة، وبالتالي عجزهم عن توحيد الرؤى في غالبية الاستحقاقات والملفات الأساسية، فساد الصراع بين أعضاء الصف الواحد.
ومردّ ذلك إلى الخفة والسطحية في التعاطي مع القضايا السياسية الأساسية، نتيجة ضعف الخبرة والتجربة السياسية، وغياب الانسجام، من دون أن يتمكّنوا من رصّ صفوفهم والتماسك في وجه تكتلات الأحزاب التقليدية ومعاركها، على الرغم من محاولات النواب التغييريبن جاهدين التعاون والاتحاد، ولكن في كلّ إجتماع كانوا يفشلون في التلاقي، فيزدادون تخبطاً وإرباكاً، وتتعمّق الإشكاليات والصراعات التنافسة بينهم، على المصالح، وليس الصالح العام.
ولم يكن من الضروري الانتظار حتى موعد جلسات المجلس النيابي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، لاكتشاف الفشل الذريع الذي أحاط بأداء وخيارات هؤلاء النواب، الذين عجزوا عن اتخاذ موقف موحد إزاء هذا الاستحقاق المفصلي، فتحوّلوا عن علم أو “قلة علم” شركاء في عملية التعطيل، وإقحام البلاد في فراغ رئاسي، في أخطر مرحلة تمرّ بها منذ عقود.
فالفشل الذي أوقع النواب التغييريون أنفسهم فيه، بدأ مع أولى جلسات مجلس النواب الجديد التي خُصّصت لانتخاب اللجان النيابية، حيث تلقوا الضربة الأولى المتمثلة بخسارة عضويتهم في اللجان النيابية، وأهمها المال والموازنة، بعد رفضهم بداية التوافق المسبق مع نواب أحزاب السلطة، والدخول في تسوية معهم، وإصرارهم على خوض الانتخابات تبعاً للعبة الديموقراطية، والتي بمجرد دخولهم فيها تنافسوا وجهاً لوجه، فكان فقدانهم تمثيلهم لصالح القوى التقليدية.
وسرعان ما تبين أنهم لا يحملون الرؤى السياسية والمواقف نفسها من الاستحقاقات المرتقبة، فغاب التجانس في ما بينهم حول القضايا الأساسية، وأبرزها الموقف من نفوذ “حزب الله” وسلاحه، الذي هو موضع خلاف عميق وجذري بين الفرقاء اللبنانيين، لا بل قد يكون هذا الخلاف هو جوهر الأزمة السياسية التي يعيشها لبنان. كذلك برزت خلافاتهم حيال الموقف من المصارف وكيفية توزيع الخسائر والمفاوضات مع صندوق النقد والبنك الدولي، وهي مسائل شائكة وشديدة التأثير على اللبنانيين.
وما زاد من التباعد بين هؤلاء النواب، هو أنّ بعضهم يحمل أفكاراً تتجاوز السياسة والاقتصاد، غير متفق عليها بينهم، ومرتبطة بتنظيم المجتمع، والحريات الخاصّة والعامّة، والقضايا النسوية وقوانين الأحوال الشخصية، خصوصاً وأنّ بعض تلك الطروحات تلقى رفضاً مجتمعياً ودينياً عارماً، كونها تتعارض مع القيم والمبادئ الدينية والتقاليد والعادات الاجتماعية، مما أبرز داخل تكتلهم الهش و”المضعضع” تيارات وإتجاهات متباينة.
هذا المسار كان كافياً، ليكون مؤشراً دالاً على عدمية هذا التكتل المستجد في أن يتمكّن مما كان يراهن عليه الناخبون الذين اقترعوا لأعضائه، بحيث سرعان ما خابت آمالهم المعقودة، وشعروا بعدم جدوى الرهان عليهم.
ومما عمق شعور الناخبين بالاحباط، المسار الأدائي لبعضهم، الذي هو أقرب إلى “الصبيانية” والمراهقة و”البهلوانية” السياسية، فضلاً عن المواقف السياسية الملتبسة للبعض الآخر، التي ترتسم حولها علامات الاستفهام والتعجب معاً، خصوصاً مع ما يتسرب من معلومات عن أنّ عدداً منهم ليس أكثر من وديعة لدى جهات سياسية محلية، دفعت بهم نحو النيابة لاستخدامهم أدوات تعمل بإمرتها.
إذاً، لم يتمكّن “التغييريون” من أن يثبتوا قدرتهم على تشكيل نواة صلبة لحالة تغييرية جدية، وأن يبتكروا نموذج عمل برلماني متجدداً، مما جعلهم يستدرجون إلى مسالك أداء الكتل النيابية الممسكة بزمام المبادرة تحت قبة البرلمان، فزاد ذلك من قدرات الهيمنة للفريق الممسك بالقرار السياسي اللبناني المصادر منه، مما يبقي الأزمة اللبنانية مفتوحة إلى أمد بعيد.