كتب جورج حايك في موقع “لبنا الكبير” لم يعد “حزب الله” قادراً على إخفاء مشكلته مع المسيحيين في لبنان، ومحاولة الأمين العام لـ”الحزب” حسن نصر الله حصر المشكلة بين حزبي “القوات اللبنانية” و”الكتائب” مع الطائفة الشيعة الكريمة لم تنطلِ على أحد، فطبيعة الأزمة أعمق بكثير، وتشمل أكثرية اللبنانيين الرافضين لمشروع “الحزب” وليس للشيعة، وإن كان يبدو أن المسيحيين رأس حربة اليوم في المواجهة الدائرة، وتتمظهر كل يوم بحوادث متنقّلة أكان في عين الرمانة أو الكحالة أو رميش أو عين ابل.
ولم يخطئ من قال، على “فورة دم” إن “حزب الله” لا يشبه لبنان بتاريخه وحضارته وتعدديته، ومشروعه يتناقض مع الدولة التي يعتبرها المسيحيون حاميتهم الوحيدة، بل هو مشروع ايديولوجي يتناقض جذرياً مع المشروع اللبناني والفكرة اللبنانية التي كان للمسيحيين المساهمة الأبرز في إرساء قواعدها، ويستحيل التعايش بين مشروعين متناقضين. علماً أن ما يتعلّق بالمسيحيين ينسحب على السنّة والشيعة والدروز الذين يريدون دولة واستقراراً وازدهاراً، والكلام عن مشكلة بين “الحزب” والمسيحيين لا يعني إطلاقاً أن هذا الخطر لا يستهدف سائر اللبنانيين، ولا يعني أن التصدّي له يجب أن يكون من مربعات طائفية، إنما مواجهته تستدعي توحيد الصفوف الوطنية على قاعدة إصطفاف بين من يريد إعادة الاعتبار الى دور الدولة وبين من يريد إبقاء لبنان ساحة صراعات ونفوذ وتصفية حسابات وعدم إستقرار.
منذ العام 2005، شاهد المسيحيون بعض رموزهم في 14 آذار يسقط الواحد تلو الآخر: جبران تويني، بيار الجميّل، سمير قصير، أنطوان غانم… لمجرد أنهم كانوا معارضين لمشروع “الحزب”، ثم صعقوا باستخدامه سلاحه في 7 أيار 2008 ضد شركائهم السُنّة في بيروت، وتألموا لإنفجار مرفأ بيروت وكانوا أكثر المتضررين، وعندما بدأ التحقيق القضائي، خاب أملهم بسبب موقف “الحزب” الرافض له، بل المهدّد والمتوعد بالويل والثبور إذا أكمل التحقيق طريقه وكأن “تحت باطو مسلة بتنعرو”، ما أوصله إلى مواجهة مع المسيحيين في عين الرمانة، إضافة إلى تفرّده بقرار الحرب والسلم. ولم ينجح تفاهمه مع “التيار الوطني الحر” في طمأنة المسيحيين، وخصوصاً أن قيادة “التيار” سخّرت هذا التفاهم لتحقيق مكاسب سلطوية لا أكثر ولا أقل.
حصلت حوارات كثيرة بين كل القوى السياسية و”الحزب” وخصوصاً مع المسيحيين، لكن تبيّن أنه يستحيل الوصول معه إلى تسوية على أساس الدولة، بحيث يعتبر سلاحه ودوره خارج النقاش، ويواصل قضمه للسلطة وتعطيل كل موقع يعمل بوحي ضميره والدستور.
أما أكثر ما أزعج المسيحيين في الفترة الأخيرة فمشاهدتهم لـ”الحزب” يُدمّر كل نقاط القوة التي كانت للمسيحيين المساهمة الأساسية فيها، من إنشاء دولة مدنية ودستور وتداول سلطة، إلى مبادرة فردية وضعت لبنان في الطليعة على المستويات الاستشفائية والسياحية والمصرفية والتعليمية والفنية والثقافية، وكل هذه القطاعات والمجالات التي ميّزت لبنان انهارت بسببه.
لا شك في أن المواجهة أصبحت أكثر سخونة بين “الحزب” والمسيحيين اليوم، وليس صحيحاً ما قاله نصر الله إن “القوات” و”الكتائب” هما أهل فتنة ويبحثون عن الحرب الأهلية، لأن البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي وهو أعلى مرجعية مسيحية، ينتقد في عظاته كل يوم أحد مشروع “الحزب” حتى ولو لم يسمّه، وقد بلغ الذروة الأحد الفائت عندما قال بصريح العبارة: “لا تعتقدوا بأنّكم أقوياء بأسلحتكم، بل أنتم أضعف الضعفاء!”.
وقد جاءت عملية اختطاف منسّق “القوات” في جبيل باسكال سليمان لتفجّر المشكلة على نحو واسع، ويقول عضو “الجمهورية القوية” النائب غياث يزبك لـ”لبنان الكبير”: “هناك مشكلة بين المسيحيين والحزب في النظرة الكيانية إلى لبنان، وهي متبدّلة ومتغيّرة، فالحزب يرى لبنان مسطّحاً من الأرض، أما نحن المسيحيون والسياديون من كل الطوائف، فنرى لبنان بحسب ما أراده المؤسسون أي وطن الرسالة، وهذا ليس مجرّد كليشيه، وطن الأقليات حيث تعيش حريتها وتمارس شعائرها، بلد ديموقراطي، جمهوري، له خصائص دستورية وقضاء نزيه. ولا نعتبر أن قوة لبنان بضعفه، بل هو يتماهى مع الأصول التي ترعى قيام الدولة السيدة، ولبنان هو مشروع متميّز عن باقي الدول لأنه فسيفساء متميّزة ومتغيّرة تتفاعل ايجابياً، كل واحد بحسب خصوصيته، لصنع هذه اللوحة المزدانة بالألوان المتناغمة”.
ويلفت يزبك إلى أن “الحزب يريد أن ينسف كل هذا المشروع، لذلك يصطدم مع حرّاس الهيكل أي القوات وبكركي المؤتمنة على مشروع لبنان الكبير الذي تعب عليه البطريرك المؤسّس الياس الحويك وشركاؤه المسلمون عام 1943، حين أكّدنا الاستقلال الأول، وعدنا إلى تثبيته في الاستقلال الثاني عام 2005”.
التوّتر بين “حزب الله” والمسيحيين ليس مرتبطاً بعملية قتل سليمان، إنما هناك مسار طويل من الخلافات العميقة بين المسيحيين الذين باتوا يجدون أنفسهم في المشروع السياسي الذي تحمله “القوات” و”الكتائب” وخلفهما البطريرك الماروني، وربما الهجوم الاستباقي الذي شنّه نصر الله على الحزبين يُعبّر عن انزعاج فعليّ من معارضة السياديين له. ويرى يزبك أن “هجوم نصر الله كان مبرمجاً، وهو يبرع في البروباغندا على طريقة غوبلز وهتلر، فقام بهجوم استباقي، وكان توتّره مصطنعاً، وتوجّه بكلام غير مثمر، وأخطر ما فيه أن استشهاد باسكال لم يكن معلناً، وهاجم القوات والكتائب فيما لم يتّهمه أحد من قياداتهما، وبذلك خالف قاعدتين: الأولى نزاهة الرجل السياسي الذي يعمل في الشأن العام، والثانية عمامة رجل الدين الذي يجب أن يتكلّم بصدق”، مشيراً إلى أن “نصر الله اتّهمنا بكل ما هو ينوي فعله وبكل ما ارتكبه حتى الآن وما ينوي أن يرتكبه في المستقبل، وهو البحث عن الفتنة واستدراج كل الاستقلاليين من المكوّنات اللبنانية الأخرى من التعلّق بمشروع الدولة إلى مشروع الميليشيا كي تتشابه الصورة السياسية، فننحدر نحن إلى حيث هو يرتاح في وحول الاقتتال الطائفي والمذهبي وجرّ لبنان إلى حرب أهلية”.
ولا يخفي يزبك أنه “على الرغم كل استفزازاته منذ اغتيال الياس الحصروني وجو بجاني والآن باسكال سليمان، كظمنا غيظنا وحافظنا على رباطة جأشنا، ولم نسارع إلى إتهام أحد في الجريمة الأخيرة”.
لا شك في أن نصر الله مأزوم نتيجة امتعاض اللبنانيين عموماً من حروبه المستمرة، وتنفيذه للمشروع الايراني في لبنان، وهذا التوتّر يزداد كلّما رأى أن الثورة المسيحية على مشروعه وسلاحه التي تقودها “القوات اللبنانية” والمعارضة عموماً، تجذب الفئات الأخرى في البلد، وهنا يعتبر يزبك أن “سُبل المواجهة تُصبح أكثر فاعلية وتهدد مشروع الحزب بقوة من خلال الوحدة المسيحية التي تضم ما لا يقل عن 70 في المئة من المسيحيين تحت الغطاء الوطني لبكركي، وتتكامل مع الانفتاح على الحركة الوطنيّة السيادية الممثّلة بالأحزاب المسيحية ومجمل التلاوين الطائفية اللبنانية من دروز وسُنّة ومعظم الشيعة، ولا نقول سراً إن هذه الجبهة موجودة، إلا أن ما يعوقها هو اختلاف الوسائل. نحن اخترنا مواجهة الحزب في الدستور ونحمل القلم بدلاً من السيف وبيد أخرى نحمل منديل الحرير، ونسعى إلى بناء دولة بطريقة سلميّة، للأسف هو يواجهنا بالسلاح، إلا أن ذلك لن يغيّر قناعاتنا”.
في المقابل، هناك موجة لدى المسيحيين تُطالب بالأمن الذاتي والتسلّح، إلا أن يزبك يرى أن “الانجرار وراء الانفعالات والتوتّر سينزلق بنا للخروج عن مسارات الدولة، وهكذا نكون قد ضيّعنا دماء الشهداء من الياس الحصروني إلى باسكال سليمان”.
ولا يختلف اثنان على أن هناك مسارين، ويؤكد يزبك أن “الأول تمثّله القوات وحلفاؤها وهو سلمي وديموقراطي ودستور ووطني، والثاني يمثّله الحزب وحلفاؤه وهو إيراني انقلابي ينتهج السلاح. صحيح أنه يسقط لنا شهداء، لكن في النهاية سينتصر هذا الخط لأنه يسير بإتجاه التاريخ، أما الخط الآخر فيأخذ اللبنانيين إلى عالم متوحّش، لا يشبه لبنان الذي نحبّه”.
في الختام، يقول يزبك: “قد يخيّل للبعض أن هذا الفريق الذي يحمل السلاح ينتصر، إلا أنه لا يفعل شيئاً سوى الدمار عبر هدم الدولة ودفع العملة إلى الانهيار والمجازفة بالاستقرار والمصارف والجامعات والمستشفيات وإفقار الشعب، والآن يفتح حرب استنزاف في الجنوب ويستخدم الوسائل الانقلابية، أما مواجهته فتكون بالتمسّك بمنطق الدولة والدستور كي لا تذهب دماء باسكال هدراً، ونحن لن ننزلق إلى حرب إنما ذلك سيؤدي إلى عصيان عريض معزز بمطالبة وطنيّة لتغيير هذه التركيبة”.