
تتوزع الاهتمامات في لبنان بين الملفات الأمنية وحالة التوتر والقلق المتفجرة في جنوبي وشمالي لبنان، وبين الملفات الدستورية والتعيينات الادارية وخاصة الأمنية وحاكم مصرف لبنان، التي تسير بشكل سلس دون عراقيل طائفية ومذهبية وشروط تعجيزية يحاول هذا الطرف أو ذاك فرضها في هذه الادارة أو تلك إلى جانب حالة الترقب لما يمكن أن تقوم به الحكومة اللبنانية لانقاذ الاقتصاد والوضع المالي.
لكن يبقى الخوف والقلق سائدا، ويبقى الجمر تحت الرماد، نتيجة حجم التحديات التي يواجهها لبنان، بسبب طبيعة سياسة المرحلة السابقة وأصحاب السيادة فيها وأهدافهم ومشاريعهم ومصالحهم التي تم تحقيقها خلال السنوات الماضية بدعم من قوى خارجية وأطراف محلية، والتحديات التي تواجهها الطبقات والقطاعات الطامحة للانقلاب على المرحلة السابقة وإعادة ترتيب البيت اللبناني وفق سياسات ومناهج عمل سياسي وأمني ودستوري جديدة بدعم محلي وعربي ودولي.
بالتالي، ورغم محاولة تلميع الخطاب السياسي اللبناني وإظهار ملامح الوفاق بين الأطراف والطوائف والمذاهب، لكن من الطبيعي أن يكون هناك جمر تحت الرماد، ومن الطبيعي أن تكون الألغام موزعة هنا وهناك، انعكاسا للصراع القائم دائما بين القديم والجديد.
وإذا كانت حرائق الجمر، والصراعات الداخلية وتفجير الألغام تشكل خطرا على كل اللبنانيين دون استثناء أفرادا وجماعات مهما كانت مكاسبها الآنية، فإن انفجار هذه التناقضات يعرض الوطن كله ومن بداخله للغرق والانهيار إن لم يكن هذا الانهيار اليوم، فحتما سيكون غدا.
لا شك أن مسار المرحلة الماضية تعرض لانتكاسة كبيرة، وأصيب بخسائر فادحة، أدت إلى تراجعه كمتحكم بالأمر الواقع، ولكن وإن كانت تصفية المرحلة السابقة ورواسبها أمر مستحيل، عليه اليوم أن يعمل على تقييم مرحلته وما شهدته من انتصارات وهزائم، أخطاء وإنجازات.
ولا شك أيضا، أن المرحلة الحالية وصلت إلى واجهة الحياة السياسية في لبنان على ركام المرحلة الماضية، وتلقت دعما داخليا وعربيا ودوليا واسعا، وعليها أن تعمل من أجل ترميم ما دمرته سنوات طويلة من الانهيار والدمار والعبث والفوضى والنهب والفساد.
ما العمل؟
بداية، لابد من التأكيد على ضرورة منع أي تفجير سياسي وأمني واجتماعي داخلي بين أي طرف وآخر، لأن التفجير له انعكاسات كارثية على الجميع، وبالتالي فإن السلم السياسي والأمني والاجتماعي بين المكونات اللبنانية أمر ضروري ليس لبناء وطن يعاني الانهيار فحسب، بل لحماية المواطن اللبناني ومستقبله ومستقبل أطفاله وعائلته حتى على المستوى الشخصي والجماعي.
وإذا كانت الدولة اللبنانية بمؤسساتها الدستورية وجيشها وأجهزتها الأمنية وإداراتها قد تمكنت من استعادة موقعها ودورها في إدارة الحياة العامة في البلد، بعد انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل الحكومة باتفاق بين كل الأطراف، فعلى الأطراف السياسية والطوائف اللبنانية اليوم أن تعطي فرصة لمشروع بناء الدولة والالتفاف حولها ودعمها، من أجل مواجهة العدوان وتحرير الأرض وانقاذ الاقتصاد وانتظام الحياة العامة، فلا تحرير للأرض ودحر الاحتلال الصهيوني ووقف عدوانه الوحشي، إلا بإعادة ترتيب البيت اللبناني الداخلي خلف مشروع موحد، واليوم حول الدولة العادلة والمعادية للاحتلال الاسرائيلي، مثلما كان الالتفاف حول الأحزاب والقوى خلال سنوات منتصف السبعينات وحول المقاومة بعد العام 1982، ولا إنقاذ للاقتصاد والليرة اللبنانية في ظل التشتت والشرذمة والانقسام والتناحرات بين أجنحة الوطن.
منذ ما بعد العام 1975، تعرض المشروع الوطني والتقدمي اللبناني بقيادة القوى اليسارية والقومية والتقدمية بالتحالف مع الفصائل الفلسطينية لهزيمة مؤسفة، كما تعرضت القوى اليمينية والانعزالية اللبنانية بالتحالف مع النظام السوري مرة ومرة أخرى مع العدو الاسرائيلي إلى هزيمة وانهيار، كما تعرضت المقاومة الاسلامية ومحور المقاومة أخيرا إلى ضربات مؤلمة أدت إلى تراجعها وضعف نفوذها.
واليوم يبدو أن معسكر العدو يعمل على استثمار تقدمه وما حققه على الصعيد الداخلي اللبناني والعربي عامة وباعتقادي أن العمل الوطني اللبناني والقومي واليساري والثوري أصيب بهزيمة وتراجع تتطلب إعادة التقييم والاستعداد وتنظيم الصفوف والعمل للمرحلة المقبلة، ويعمل العدو اليوم على ترسيم خيوط المرحلة القادمة وتركيب سياستها وأمنها وخرائطها بما يضمن مصالحه.
ما يحتاجه المواطن اللبناني هو إقامة دولة عادلة وقوية تعمل على دحر الاحتلال الاسرائيلي وتحرير الأرض اللبنانية المحتلة ووضع حد للخطر والعدوان الاسرائيلي وخروقاته المتوصله..
وما يشغل بال المواطن اللبناني اليوم أيضا، هو انقاذ بلده من حالة الانهيار المالي والاقتصادي، ووقف حالات النهب والفساد وانتشار المخدرات وتنظيم الحياة العامة، واستعادة أمواله المنهوبة وتأمين السلامة والاستقرار.
وأمام المحاولات العدو لاستثمار انتصاراته، تعلن الدولة اللبنانية رسميا استعدادها للانقاذ وتحقيق مصالح الشعب والعمل على دحر الاحتلال وبسط السيادة، وهذه فرصة يجب البناء عليها، وعلى اللبنانيين جميعا منح فرصة للعمل الوطني اللبناني من خلال بناء الدولة العادلة، لتعيد الأمن والاستقرار وتواجه مخططات العدو الاسرائيلي وتعمل على إنقاذ الوضع الاجتماعي والمالي والاقتصادي في البلد.