في ظلّ انسداد الأفق السياسي لتشكيل حكومة جديدة بعد مرور نحو أربعة أشهر على تكليف الرئيس سعد الحريري، وذلك بعدما تعثّرت كلّ المبادرات الخارجية والداخلية الساعية لإنتاج “حكومة مهمة”، طالب البطريرك الماروني بشارة الراعي، في عظته الأحد 7 شباط، بـ”طرح قضية لبنان في مؤتمر دولي خاص برعاية الأمم المتحدة”.
توقيت هذه المطالبة يأتي رّدّاً على فشل “الجماعة السياسية” في تأليف الحكومة، خصوصاً أنّه كان قد أطلق مبادرة للمصالحة بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري لكنّها أجهضت وقد لخّصها في عظته الأخيرة بالقول: “نادينا فلم يسمعوا. سألنا فلم يُجيبوا. بادرنا فلم يتجاوبوا”.
لكنّ مطالبته تلك، من حيث مضمونها، تتخطّى مسألة تأليف الحكومة. إذ ليس من المنطق السياسي بشيء أن يُعقد مؤتمر دولي هدفه الحصري تشكيل حكومة في أي بلد من البلدان، فكيف الحال في لبنان الذي دوّلت مسألة تشكيل حكومته مذ أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مبادرته الشهيرة خلال زيارته إلى بيروت في أيلول الماضي؟ وعلى الرغم من ذلك لم تبصر الحكومة النور حتّى الآن.
لذلك فإنّ دعوة البطريرك إلى عقد مؤتمر دولي بشأن لبنان ينطوي على قناعة ضمنية من جانبه بأنّ الأزمة الحكومية ليست سوى ارتداد لأزمة أكبر وأعمق تتصّل بما أسماه البطريرك في عظته: “الإصرار على إسقاط الدولة بكل ما تمثّل من خصوصية وقيم ودستور ونظام وشراكة وطنية”.
توقيت هذه المطالبة يأتي رّدّاً على فشل “الجماعة السياسية” في تأليف الحكومة، خصوصاً أنّه كان قد أطلق مبادرة للمصالحة بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري لكنّها أجهضت وقد لخّصها في عظته الأخيرة بالقول: “نادينا فلم يسمعوا. سألنا فلم يُجيبوا. بادرنا فلم يتجاوبوا”
أمر ثانِ تنطوي عليه الدعوة البطريركية هو التشكيك في قدرة أو رغبة رئيس الجمهورية على إنتاج حلّ للأزمة الحالية.
لا بل إنّ البطريرك ألمح إلى مسؤولية الرئيس ميشال عون في الأزمة، بقوله: “لا يجوز بعد اليوم لأيّ مسؤول التهرّبُ من المسؤولية ومن الواجبات الوطنية التي أنُيطت به تحت أي ذريعة”، مضيفاً: “كلُ سلطة تتخلى عن الخيار الوطني التاريخي تفقدُ شرعيتها الشعبية”.
والحال هذه فإنّ الدعوة البطريركة الآنفة هي بحدّ ذاتها اعتراف ضمني بأنّ عون بات جزءاً من الأزمة، إذ هي تُسقط عنه صفة “الحَكَم” وبالتالي تقرّ بعجزه عن إدارة الأزمة.
وإلّا فما الداعي إلى عقد مؤتمر دولي لحلّ الأزمة الحالية إذا كان رئيس الجمهورية قادراً على لعب دور الوسيط أو الحكم بين الأطراف المتنازعة وبالتالي حلّ الخلاف بينها.
والحال فإنّ الوساطات لحلّ المعضلة الحكومية كانت تتمّ مع عون نفسه، ولم يكن هو من يرعاها، فهل الوساطة تكون مع وسيط في الأزمة أو مع طرف فيها؟!
هذا ما يفسّر مسارعة “التيار الوطني الحرّ” إلى إرسال وفدٍ إلى بكركي بعد يوم من العظة البطريركية، الإثنين 8 شباط، ليقول جملة واحدة ردّاً على طرح الراعي: “نحن نرى أنّ الحلول يجب أن تأتي من الداخل على المستوى المسيحي والوطني، فإذا لم نستطع أن نستنبط حلولاً من الداخل فعبثاً نحاول”.
لكن هل يمكن لاستنباط الحلول من الداخل أن يكون بلا سقف زمني وسط كل الأزمات التي يتخبّط بها لبنان؟
البطريرك ألمح إلى مسؤولية الرئيس ميشال عون في الأزمة، بقوله: “لا يجوز بعد اليوم لأيّ مسؤول التهرّبُ من المسؤولية ومن الواجبات الوطنية التي أنُيطت به تحت أي ذريعة”
وتشاء الصدف (؟) أن يَصدُر موقف عن البابا فرنسيس خلال لقائه أعضاء السلك الديبلوماسي المعتمدين لدى الكرسي الرسولي يوم الإثنين نفسه، تمنّى فيه أن “يشهد لبنان التزاماً سياسياً، وطنياً ودولياً، يساهم في تعزيز الاستقرار في بلد يواجه خطر فقدان هويته الوطنية والانغماس داخل التجاذبات والتوترات الإقليمية”.
لكنّ الديبلوماسية الفاتيكانية المتخفّظة والحذرة دائماً في اختيار عباراتها اكتفت بالحديث عن “التزام سياسي وطني ودولي” تجاه لبنان، ولم تتطرّق إلى طبيعة هذا الإلتزام وما إذا كان من الممكن أن يأخذ شكل مؤتمر دولي كالذي دعا إليه الراعي.
أيّا يكن من أمر فإنّ أوساط بكركي نفسها لا تتوقّع “أن يسلك الطرح البطريركي طريق التنفيذ في اليوم التالي على إعلانه”… وتضيف: “الفكرة تحتاج إلى نضوج وتخمير وإلى الشروع باتصالات دولية وعربية لبلورتها، لكنّ الأكيد أنّ قوّتها الأساسية آتية من كونها صادرة عن مرجعية فوق النزاعات وأنّ لها حاضنة شعبية لبنانية في ظلّ المآسي التي تتوالى على الشعب اللبناني، وكذلك فإنّ دوائر عربية ودولية تقابلها بالاهتمام”.
تدافع هذه الأوساط بقوّة عن دعوة البطريرك المذكورة خصوصاً بعدما عبّرت أطراف سياسيّة مسيحية عن مخاوفها من أن تثير هذه الدعوة شهيّة إطراف لبنانية إلى عقد مؤتمر تأسيسي “سواء في الداخل أو في الخارج”.
وذلك بالإحالة إلى مسارعة الأمين العام لحزب الله إلى تلقّف دعوة ماكرون إلى إقامة “عقد سياسي جديد” خلال زيارته إلى لبنان في السادس من آب الماضي، قبل أن يعدل الرئيس الفرنسي عن دعوته تلك بعدما أثارت لغطاً لغوياً ومفهومياً وسياسياً.
في المقابل تؤكّد أوساط الصرح البطريركي أنّ المؤتمر الدولي هو لمنع إعادة تأسيس لبنان وليس لإعادة تأسيسه، مذكّرة بأنّ دعوة الراعي المذكورة “ترتكز على وحدة الكيان ونظام الحياد وتوفير ضمانات دائمة للوجود اللبناني تمنع التعدي عليه، والمسّ بشرعيته، وتضع حداً لتعددية السلاح، وتعالج حالة غياب سلطة دستورية واضحة تحسم النزاعات، وتسد الثغرات الدستورية والإجرائية”…
لكنّ الديبلوماسية الفاتيكانية المتخفّظة والحذرة دائماً في اختيار عباراتها اكتفت بالحديث عن “التزام سياسي وطني ودولي” تجاه لبنان، ولم تتطرّق إلى طبيعة هذا الإلتزام وما إذا كان من الممكن أن يأخذ شكل مؤتمر دولي كالذي دعا إليه الراعي
ومعلوم أنّ أطرافاً مسيحية وإسلامية ترى أنّ النقطة الأخيرة تفتح الباب واسعاً أمام تعديل الدستور وربّما إسقاط “وثيقة الوفاق الوطني”، ولذلك فهي تعبّر عن رفضها البحث في الدستور في ظلّ تمسّك حزب الله بسلاحه.
وهذه نقطة ضعف في الدعوة البطريركية، إذ أنّ العديد من القوى التي أيّدت نداءه في الخامس من تموز الماضي تعترض على أي محاولات لتعديل الدستور في الآونة الراهنة.
في المحصلّة فإنّ دعوة الراعي إلى عقد مؤتمر دولي لطرح القضيّة اللبنانية، وأيّا تكن مآلاتها، فهي تأكيد إضافي على تراجع الثقة بإمكان إنتاج حلول داخلية للأزمة اللبنانية بوجوهها السياسيّة الأمنية والمالية الإقتصادية.
ولذلك يفترض مقاربة الدعوة البطريركية تلك بوصفها تصعيداً إضافياً بوجه “الجماعة السياسية” وفي مقدمتها ميشال عون، وعلى الجميع أن يعملوا لكي لا تكون صرخة في البريّة مثل صرخة يوحنّا المعمدان… على قاعدة “نادينا ولم يسمعوا”؟