يمكن تلخيص حديث البابا فرنسيس في القصر الجمهوري في بغداد يوم الجمعة بكلمة واحدة: السلام.
لذلك فإنّ الزيارة البابوية إلى العراق هي حدثٌ استثنائي، وغالب الظنّ أنّها تؤسّس لمرحلة جديدة في المنطقة، سيكون عنوانها بناء السلام في داخل البلدان التي مزّقت الحروب نسيجها الاجتماعي، وفكّكت دولها ودمّرت اقتصاداتها ومستقبل بناتها وأبنائها.
هذا التوجّه السياسي والاستراتيحي الجديد الذي بشّر به البابا شعوب المنطقة المنهكة، ليس مبنيًّا على الآمال والنوايا السليمة وحسب، بل هو يرتكز بالتأكيد على قراءة فاتيكانية دقيقة للاتجاهات الجديدة في السياسات الدولية تجاه المنطقة، يمكن تلخيصها بأنّ مسار الحروب الذي انطلق في الإقليم منذ غزو العراق في العام 2003 لا بدّ أن ينتهي وأن ينقلب مسارًا للسلام في دواخل البلدان المدمّرة.
مسار السلام الذي أطلقه البابا ليس سهلًا وسريعًا، لكنّه انطلق.
ولعلّ انطلاقته هي العنوان الأبرز والأهمّ في الزيارة إلى بلد تُعتبر أزماته ملخّصًا لأزمات بلدان المشرق العربي، سواء لجهة ضعف سلطة الدولة أمام الميليشيات، والتدخّلات الخارجية، أو لجهة الصراعات المذهبية والطائفية، أو لجهة تفشّي الفساد والزبائنية.
البابا قال من بغداد: “لتصمت الأسلحة ولنضع حدًّا لانتشارها هنا وفي كل مكان، ولنضع حدًّا للمصالح الشخصية والخاصة، والمصالح الخارجية التي لا تهتم بالسكان المحليين، ولنستمع لمن يبني ويصنع السلام”.
وكلامه هذا واضح لا لبس فيه، فالبابا صوّب على الميليشيات وعلى التدّخلات الخارجية في العراق، على حساب مصالحه ومصالح شعبه، ليقول إنّ زمنها شارف على نهايته، وأمّا الزمن الآتي فهو لمن يبني ويصنع السلام.
الزيارة البابوية إلى العراق هي حدثٌ استثنائي، وغالب الظنّ أنّها تؤسّس لمرحلة جديدة في المنطقة، سيكون عنوانها بناء السلام في داخل البلدان التي مزّقت الحروب نسيجها الاجتماعي، وفكّكت دولها ودمّرت اقتصاداتها ومستقبل بناتها وأبنائها
وكما يقول الإنجيل: “من له أذنان صاغيتان فليسمع”، إذ إنّ أصداء كلام البابا لم تتردّد في العراق وحده، بل في جميع بلدان المنطقة ومنها لبنان الذي وإن لم يغرق في الحروب الأهلية على غرار سوريا والعراق، فهو يعيش انقسامًا داخليًّا حادًّا ومديدًا، معطوفًا على أزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة، وكلّ ذلك أدّى إلى تفكّك دولته واحتدام الاحتقانات الطائفية والمذهبية في الحكم والمجتمع، في ما بات يشبه التقسيم الجغرافي/الطائفي المقنّع للكيان اللبناني.
وفوق ذلك كلّه، فإنّ إشكالية سلاح حزب الله تضغط بقوّة أكبر من ذي قبل على كامل الحيّز السياسي والوطني.
وقد فاقم انضواء هذا السلاح ضمن الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، من حدّة هذه الإشكالية وجعلها مستعصية على أيّ حوار داخلي، ما لم يقتنع حزب الله بالارتدادات السلبية لهذه الإشكالية على لبنان كمجتمع ودولة، وعليه كحزب، بالنظر إلى اتّساع المعارضة الداخلية على سياساته.
ولا شكّ أنّ خطاب البطريرك بشارة الراعي أمام الحشود التي تجمعت في بكركي في 27 شباط، شكّل محطّة مفصلية في العلاقة بين الحزب والوسط السياسي والشعبي المسيحي.
إذ إنّ البطريرك بإثارته الإشكاليات الوطنية التي يثيرها سلاح الحزب، أسّس لمقاربة مسيحية جديدة لـ”مسألة حزب الله”، مختلفة تمامًا عن المقاربة التي أسّسها “تفاهم مار مخايل”، والتي سرعان ما أخذت أبعادًا إقليمية بعد تدخّل الحزب في سوريا.
إذ نجح التيار الوطني الحر في تصوير حرب الحزب في سوريا، بمثابة حماية للبنان ولمسيحييه على وجه التحديد.
هذه المقاربة القديمة سقطت اليوم، خصوصًا أنّ المزاج الشعبي المسيحي آخذ في الربط بين الأزمة المالية الحالية التي تضرّر منها المسيحيون بقوّة، وبين سياسات حزب الله الإقليمية التي عزلت لبنان عن دول الخليج العربي والغرب، وبالتالي قطعت شرايين دعمه الرئيسة.
يحصل ذلك في وقت عبّر المسيحيون العراقيون في الإعلام الغربي خلال الأسابيع الماضية، عن شكواهم من سيطرة الميليشيات الشيعية الموالية لإيران على ممتلكاتهم في سهل نينوى، بعد التخلّص من “داعش”.
بالتالي فإنّ سردية “تحالف الأقليات” التي قسّمت مجتمعات المشرق العربي بين أكثرية سنيّة وأقليات إسلاميّة ومسيحية، وافترضت حماية الأقليات القوية للأقليات الضعيفة، تزعزعت تزعزعًا قويًّا في العراق، بعد دحر “داعش”، وفي لبنان بعد الأزمة المالية.
لا شكّ أنّ خطاب البطريرك بشارة الراعي أمام الحشود التي تجمعت في بكركي في 27 شباط، شكّل محطّة مفصلية في العلاقة بين الحزب والوسط السياسي والشعبي المسيحي
وهذا تحوّل كبير على مستوى الديموغرافيا السياسية في المنطقة، لا يمكن للحزب وإيران تجاهله.
ولكنّ السؤال هو كيف سيقابل الحزب هذا التحوّل، هل بعقلانية، أم بمزيد من الإيغال في المنطق الصراعي؟
لقد تحدّث البابا في بغداد عن إعطاء المجال لمن يريدون أن يبنوا العراق في الحوار، وفي مصالحة صريحة وصادقة وبنّاءة، قائلًا: “إنّ العيش معًا يحتاج إلى حوار صابر وصادق يحميه العدل واحترام القانون”.
وهذا كلام له ارتداد أيضًا في لبنان، إذ إنّ شرائح واسعة من الشعب اللبناني أصغت إلى البطريرك الراعي، لأنّه يسعى لحلّ الأزمة ويدعو للعدل واحترام القانون على أساس الدستور ووثيقة الوفاق الوطني، التي حلّت معضلة “المشاركة” التي تحدّث عنها البابا في خطابه في بغداد.
ولذلك فإنّ “اتفاق الطائف” لا يزال يتمتّع بصفة راهنية لا في لبنان وحسب بل على مستوى المنطقة، لأنّه أسّس لدينامية سياسية ودستورية جديدة هي دينامية انتقالية من منطق الحرب إلى منطق السلم، وإن كانت الوصاية السورية قد قوّضت هذه الدينامية، فجعلت المسار السياسي بعد الحرب امتدادًا لمسار الحرب نفسها.
ولذلك زار البابا يوحنا بولس الثاني لبنان في العام 1997 ليعطي أملًا للبنانيين بأنّ الوضع القائم لن يستمرّ، تمامًا كما يقول البابا فرنسيس للعراقيين اليوم.
كلّ ذلك يفترض أن يدفع حزب الله إلى إعادة قراءة واقعه الداخلي والإقليمي، وإعادة تقييم علاقاته مع “الطوائف اللبنانية”.
فالاستمرار في منطق المواجهة يعمّق الانهيار، وبالتالي يزيد من اتساع الاتهام الشعبي للحزب بالتسبّب به.
كذلك فإنّ كلام البابا في العراق الذي يستهدف المليشيات والتدخلات الخارجية، كان قد لاقاه كلام البطريرك الراعي في بكركي في 27 شباط، فهل يلتقط الحزب الإشارة قبل فوات الأوان؟