الحزب يتفلّت من أسر الأزمة: حلّ بشروطي أو لا حلّ

20 مارس 2021
الحزب يتفلّت من أسر الأزمة: حلّ بشروطي أو لا حلّ
beirut News
إيلي القصيفي

دخلت الأزمة اللبنانية، بعد خطاب الأمين العام لحزب الله مساء الخميس، مرحلة جديدة أكثر خطورةً وتعقيداً من السابق. ولا شكّ أنّ تعمُّد حسن نصرالله وصف الأزمة بكونها سياسيّة في هذا التوقيت بالذات، يعكس السمات الأساسيّة لهذه المرحلة الجديدة التي يمكن تلخيصها انطلاقاً من مضمون الخطاب بالآتي: حزب الله ليس في وارد تقديم أيّ تنازل سياسي لتسهيل حلّ الأزمة الاقتصادية في لبنان، بل على العكس فإنّ الحزب ينظر إلى مجمل الوضع اللبناني الآن من منظور خاص جدّاً تفرضه عليه التطوّرات الإقليميّة والدوليّة.

إذاً سيتصرّف الحزب في لبنان بما تمليه عليه أجندته الخاصة بالنظر إلى المتغيرات في المشهدين الإقليمي والدولي، بمعزل عن الحدود التي يمكن أن يبلغها الانهيار. وهذا يعني أنّ لبنان واللبنانيين سيكونون أكثر من ذي قبل رهائن لهذه الأجندة أيّاً تكن التبعات المأسوية لذلك عليهم.

وهذا ما يفسّر تعمُّد نصرالله الخميس خلط الأوراق في الملفّ الحكوميّ من خلال الانقلاب على المبادرة الفرنسية، أيّ إطاحة كلّ المسار السياسيّ للحلّ الذي أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ آب الماضي. طبعاً هذا المسار كان متعثّراً، بل معطّلٌ، لكنّ الأمين العام لحزب الله أطاحه نهائياً الخميس ليس بسبب تعثّره وتعطّله، لكنّ أولويات الحزب باتت تقتضي إعادة الإمساك بقوّة بالورقة اللبنانية في ضوء المتغيّرات المحيطة بلبنان.

من هنا لم يكتفِ نصرالله بتقويض العمليّة السياسيّة لتأليف الحكومة، بما في ذلك مبادرات حليفه الرئيس نبيه برّي، بل طرح تصوّراً مغايراً تماماً لـ”إدارة” المرحلة المقبلة يتمثّل بتفعيل حكومة حسّان دياب بالتزامن مع الضغط على حاكم مصرف لبنان لضبط ارتفاع سعر صرف الدولار. وهذه إشارة من نصرالله إلى أن لا انفراجَ قريباً للأزمة، وبالتالي ينبغي إدارة الانهيار بالأدوات السياسيّة والإداريّة والنقديّة المتوافرة.


إذاً سيتصرّف الحزب في لبنان بما تمليه عليه أجندته الخاصة بالنظر إلى المتغيرات في المشهدين الإقليمي والدولي، بمعزل عن الحدود التي يمكن أن يبلغها الانهيار. وهذا يعني أنّ لبنان واللبنانيين سيكونون أكثر من ذي قبل رهائن لهذه الأجندة أيّاً تكن التبعات المأسوية لذلك عليهم


يضع الحزب تصوّراً للمرحلة المقبلة بين حدّين: لا حلَّ سياساً للأزمة إلّا بشروط الحزب من حيث مضمون الحلّ وتوقيته، وفي الوقت نفسه يجب ضبط الانهيار عند حدود معيّنة من خلال التحكّم بسعر الصرف والذهاب إلى إجراءات حزبية وأهلية لمساعدة الناس.

وهذه تصوّرات لكبح التطوّرات الدراماتيكية للأزمة لا يملك الحزب بالتأكيد ضمانات لنجاحها، لكنّه يهدف من خلالها إلى التنصّل المسبق من أيّ مسؤوليّة سياسيّة عن تفاقم الانهيار.

هذا وقد فتح نصرالله باباً جديداً يفضي بالتأكيد إلى تعقيدات إضافيّة للأزمة من خلال طرحه ضرورة البحث عن “حلّ دستوريّ ينهي الثغرة المتمثّلة في إمكانية البقاء في مرحلة تأليف الحكومة لسنوات، في حال عدم اتّفاق رئيس الجمهورية مع الرئيس المكلّف”.

وهو كان قد مهّد لطرحه هذا بحديثه في بداية خطابه عن كوننا في أزمة نظام، وكرّر ثلاث مرّات في كلمته عبارة “الثغرات الدستوريّة”.

وهذا طرحٌ لا يؤدّي في التوقيت الحالي إلّا إلى تأخير أيّ حلّ سياسيّ للأزمة الحكوميّة، لا بل يحيل إلى رغبة الحزب في نقل الأزمة إلى مستوى أعلى، أي إلى مستوى البحث في النظام السياسي بهدف تثبيت معادلات دستوريّة جديدة تعكس موازين القوى الجديدة التي يحاول الحزب فرضها على الواقع اللبناني.

كلّ هذه الطروحات التي تقدّم بها نصرالله لا تعكس عدم استعجال الحزب تشكيل حكومة وحسب، بل تترجم أيضاً أنّ الحزب يريد التصعيدَ السياسيَّ، وربّما الأمنيّ والعسكريّ، إلى الحدود القصوى ردّاً على الضغوط الدوليّة والإقليميّة القديمة والمستجدّة التي يتعرّض لها.

وفي هذا السياق يُربط تشدّد الحزب في لبنان بأمرين:

1 – تعثّر المسار الديبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي الإيراني:

بالنظر إلى عدم القبول الأميركي برفع العقوبات عن طهران كشرط مسبق طلبته للعودة إلى الالتزام بموجبات هذا الاتفاق. فواشنطن في صدد تطبيق عقوبات على وارادات الصين من النفط الإيراني.

وبالنظر إلى إصرار الغرب على توسيع برنامج التفاوض مع طهران ليشمل مشروعها البالستي وتوسّعها الإقليمي، وهو ما أكد عليه الرئيس الفرنسي الخميس خلال استقباله نظيره الإسرائيلي. والأرجح أنه لن يطرأ تحوُّلٌ كبيرٌ في هذا الملفّ قبل الانتخابات الإيرانيّة في حزيران.

2 – الحراك الروسي الجديد في المنطقة في ما يخصّ الملف السوري:

هنا يُفهم تصعيد الحزب في لبنان باعتباره يردّ على ضغط يتعرّض لها من أجل أن “يتساهل” في سوريا ضمن الترتيبات الجديدة التي تحاول روسيا تثبيتها هناك للخروج من حالة المراوحة بين ثبات إنجازاتها العسكرية وبين عدم قدرتها على ترجمة هذه الإنجارات سياسياً واقتصادياً.

وليس قليلَ الدلالةِ في هذا السياق أن تتعمّد موسكو استقبال وزير الخارجية الإسرائيلي لـ”بحث التموضع الإيراني في سوريا”، في وقت لم يكن وفد حزب الله قد أنهى زيارته العاصمة الروسيّة.

واللافت أن تسريبات اللقاء بين وزيريْ الخارجية الروسيّ والإسرائيليّ تحدّثت عن أنّ الترتيبات الروسية الجديدة في سوريا تأخذ المصالح الإسرائيلية في الاعتبار، وفي مقدّمها بالتأكيد تقليص النفوذ الإيراني في دمشق.

أضف إلى ذلك تلويح إسرائيل بإمكان أن تضرب مواقعَ للحزب في لبنان، وتهديداتها المتكرّرة بضرب البنى التحتيّة اللبنانيّة في حال شنّ الحزب هجوماً عليها انطلاقاً من لبنان. وهذا يزيد الضغط على الحزب، خصوصاً في ظلّ الانهيار الذي يرزح تحته لبنان.


كلّ هذه الطروحات التي تقدّم بها نصرالله لا تعكس عدم استعجال الحزب تشكيل حكومة وحسب، بل تترجم أيضاً أنّ الحزب يريد التصعيدَ السياسيَّ، وربّما الأمنيّ والعسكريّ، إلى الحدود القصوى ردّاً على الضغوط الدوليّة والإقليميّة القديمة والمستجدّة التي يتعرّض لها


في المحصلّة تتجاوز أسباب تشدُّد الحزب الأزمةَ اللبنانيّةَ، وتتحوّل هذه الأزمة نفسها أكثر من أيّ وقت ورقةَ تفاوضٍ بيد الحزب ومِن ورائه إيران.

وهذا الأمر يطرح سؤالاً أساسيّاً على القوى السياسيّة المناوئة للحزب. إذ إنّ تصعيده الأخير ينقل الأزمة السياسيّة إلى مستوى آخر يُفترض أن يعيد فرز المشهد السياسي بين من يؤيّد توظيف لبنان ورهن مصيره للسياسات الإيرانيّة وبين من يرفض ذلك ويعمل على تحرير القرار السياسي للدولة اللبنانية.

وقد حاول نصرالله في خطابه الخميس شيطنة أيّ مشروع خصم لمشروع حزبه، من خلال رؤيته لمطلب الحياد الذي يحمله البطريرك الماروني إلحاقاً للبنان بالمحور الأميركي – الإسرائيلي.

وهذا الاستهداف للطرح البطريركي هو اعتراف ضمنيّ من قبل نصرالله بأهميّته وبقابليّته للتحوّل إلى مشروع سياسيّ ووطنيّ مقابلٍ لمشروع الحزب.

ولذلك يُفتَرض بالقوى السياسيّة التي ترفض سياسات الحزب أن تستظلّ مبادرة بكركي التي ترسم طريقاً للحلّ يرتكز على الدستور، في مقابل تهديد نصرالله بـ”خيارات كبيرة ومهمّة إن لم يكن تنفيذها عبر القانون والدولة متاحاً فسنلجأ إلى تنفيذها (خارج الدولة والقانون)”.

فخلط الحزب للأوراق على هذا النحو يُفترض أن يعيد ترتيب أولويّات القوى السياسيّة المناوئة له، وخصوصاً تلك المعنيّة بمباشرة تأليف الحكومة، وإلّا فإنها ستمعن في إطلاق النار على رجليْها بل رأسها هذه المرّة.

فإذا كانت الأزمة لا تأسِر حزب الله بخيارات تفرضها ضرورة استعجال الحلّ، فإنّ من المفترض بالقوى الأخرى، بمن فيها مجموعات الانتفاضة، أّلا تكون أسيرة الأزمة… وضحيّتها!

المصدر أساس