يرفع العهد العوني شعار حماية الودائع الآن، بعد خراب البصرة، ثم يتّخذ من هذا الشعار عنواناً لمعاركه السياسية وتحرّكاته في الشارع، ليوفّر بذلك غطاءً شعبياً لإنشاء كانتون قضائي مستقلّ، وتجنيد “التدقيق الجنائي” ضمن عدّة الشغل السياسية.
ملخّص الدعوى العونية أنّ التدقيق الجنائي واقتحامات القاضية غادة عون ليس لهما أيّ سياق سياسي سوى القتال العوني لحماية ودائع الناس.
ومن أجل ذلك يُسوّقُ العهد وهماً للناس بأنّ 150 مليار دولار من الودائع اختفت في مصرف لبنان، وبأنّ التدقيق الجنائي يمكن أن يعيدها، وهو إضافةً إلى كونه وهماً فارغاً، فإنّه لا وظيفة له سوى غسل يد العهد من الخطايا المالية التي كانت السبب المباشر للانهيار.
يريد العهد القول إنّه لا يتحمّل مسؤولية شيءٍ مما جرى، وإن كان موجوداً في رئاسة الجمهورية وقابضاً على ثلث الحكومة منذ سنة 2016.
يقول رئيس الجمهورية ميشال عون في خطابه الأخير: “بعدما انتُخِبتُ رئيساً للجمهورية، حاولتُ على مدى ثلاث سنوات ومن دون نتيجة أن أفتح باب التدقيق الجنائي لأحمي ودائع الناس”.
هذا إقرار من الرجل أنّه كان مدركاً منذ انتخابه، وخلافاً لكل تصريحاته وخطاباته آنذاك، أنّ الودائع مهدّدة. فماذا فعل؟
ما فعله العهد، واستطراداً “التسوية الرئاسية”، منذ لحظة دخول ميشال عون إلى قصر بعبدا، هو بالضبط ما أدّى إلى انهيار الوضع المالي وتبخّر الودائع، وإغلاق البنوك في وجه الناس، بمعزلٍ عن سوء الإدارة والفساد في أيّ مكان آخر.
ملخّص الدعوى العونية أنّ التدقيق الجنائي واقتحامات القاضية غادة عون ليس لهما أيّ سياق سياسي سوى القتال العوني لحماية ودائع الناس
لا جدال في أنّ مصرف لبنان ارتكب من الخطايا في إدارة السياسة النقدية ما يُحمّله مسؤولية كبرى عن انهيار النظام المالي، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بجمع أموال المودعين لديه على شكل شهادات إيداع من المصارف، وتبديدها في تمويل عجز الحساب الجاري، ناهيك عن الخطيئة الأصلية المتمثّلة بإقراضه القطاع العام بلا حدود، بالليرة والدولار، متجاوزاً النطاق الضيّق الذي يسمح به قانون النقد والتسليف.
ولا جدال أيضاً في أنّ البنوك شاركت في جناية أخلاقية كبرى، بتهريبها مليارات من أموال المحظيّين منذ اندلاع ثورة 17 تشرين، وهي جناية تؤكّدها البيانات الرسمية الصادرة عن مصرف لبنان، لكنّ القانون لا يدينها طالما أنّ قانون “الكابيتال كونترول” لم يُقرّ.
لكنّ الممارسة العونية تقفز من إدانة مصرف لبنان والمصارف إلى ما هو أبعد، وهو تبرئة نفسها من المسؤولية الأصلية عن الانهيار المالي.
الوهم الذي يسوّق الآن هو كون الأزمة نقديّة – مصرفية، أي أنّ مكانها مصرف لبنان والبنوك، فيما الحقيقة أنّها في الأصل أزمة مالية تتعلّق، أوّلاً وقبل أيّ شي آخر، بعجز الميزانية العامة، وهو عجز كان قائماً منذ السبعينيات، لكنّه انفجر في ظل التسوية الرئاسية انفجاراً لم يعرف لبنان له مثيلاً من قبل.
ما سيكتبه التاريخ عن هذه الأزمة أنّ تسويةً رئاسيةً فجّرت المالية العامة، بفعل الشهية المفتوحة للإنفاق في كل صوب، من أجل التكسّب الانتخابي وشراء الولاءات.
اتّفق الجميع على إقرار سلسلة الرتب والرواتب، وقد كانت مطلباً عونياً قديماً، مع علمهم أنّها ستقود إلى إفلاس الدولة.
ورافق ذلك تسابقٌ إلى إدخال الموالين إلى أجهزة الدولة والشركات الحكومية، على الرغم من إقرار تشريعٍ لوقف التوظيف.
وما بين إقرار تلك الزيادات واندلاع الأزمة في تشرين الأوّل 2019، تكبّدت الدولة ما لا يقلّ عن 4.5 مليارات دولار لتغطية تكلفة السلسلة.
زِد على ذلك انفلات الإنفاق والتلزيمات في مناطق نفوذ جبران باسيل، من مشاريع السدود والطرق، حتّى أعمدة الكهرباء التي باتت توزّع هدايا انتخابية.
وهكذا قفزت نفقات الدولة (عدا فوائد الدين) من 12 ألف مليار ليرة في 2016 إلى أكثر من 16 ألف مليار ليرة في 2018.
من أين دفعتها الدولة؟ ببساطة شديدة، من الأموال التي يبحث عنها التدقيق الجنائي.
إنّها احتياطات مصرف لبنان، التي ليست إلا ودائع الناس في البنوك. كانت الدولة تموّل عجزها عبر الاقتراض بالليرة والدولار من مصرف لبنان، ويُفترض بمستشاري الرئيس، على الأقل، أنّهم كانوا يدركون أنّ ذلك التمويل كان يأتي من ودائع الناس التي يذرف عليها العونيون دموعهم اليوم.
لا نقاش في هذه الوقائع والأرقام الصادرة عن وزارة المال، ولا تخفى دوافع العونيين إلى ارتكاب تلك الخطايا.
فرئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل كان يردّد على الدوام، في السنة الأولى بعد انتخاب عون رئيساً، أنّ العهد لم يُقلع بعد، وأنّ حكومة العهد الأولى هي التي ستشكّل بعد الانتخابات.
وعلى هذا الأساس كان كل شيء مباحاً لحصد كل صوت ممكن، من عكّار إلى جزّين. وفوق ذلك، يقول في التسجيل المسرّب الشهير، الذي هاجم فيه رئيس مجلس النواب نبيه بري، عن رفع رواتب القطاع العام إنّه “يشجع المسيحيين على الدخول إلى الدولة”.
ومعروف في العرف العوني أنّه حين يقول “المسيحيين” فإنّه يعني جماعته على وجه الخصوص.
من أين دفعتها الدولة؟ ببساطة شديدة، من الأموال التي يبحث عنها التدقيق الجنائي. إنّها احتياطات مصرف لبنان، التي ليست إلا ودائع الناس في البنوك
ذاك هو مسار السياسات المالية الذي موّله حاكم مصرف لبنان بأموال المودعين، تحت الضغط السياسي، وربّما بإشهار سيف عدم التمديد له.
وليس يخفى أنّ الرئيس عون نفسه أيّد علناً، بالصوت والصورة، استمرار سياسة تثبيت سعر صرف الليرة، وحذّر سلامة في الاجتماعات المغلقة من المسّ بها، حتّى إنّ كثيراً من العونيين، حين بدأ سعر الليرة بالتراجع، كانوا يتّهمون سلامة بالانخراط في الحرب على عون.
بعدما استخدم العهد العوني أموال المودعين، بالتكافل مع أطراف التسوية الرئاسية، لصرف النفوذ السياسي، وتوفير النجاح في انتخابات عام 2018، ها هو ينفض يده الآن من كل ما جرى، ويصوّر أنّ الأزمة في مكان آخر.
لا نقاش في الحاجة إلى التدقيق الجنائي، وتحديداً في مصرف لبنان قبل سواه.
ولا جدال في الحاجة إلى وقف تهريب الأموال.
لكن، بموازاة ذلك، وربّما قبله، لا بدّ من تدقيق سياسي في كل الجنايات على المودعين التي ارتكبها العهد العوني.
وبموازاة المحاسبة القضائية، وربّما قبلها، لا بدّ من المحاسبة في صناديق الاقتراع.
تلك جنايات على المودعين لا تمحوها عراضات إعلامية من غادة عون. فكما يقول رمزي نجار الراحل، الأولى بالإعلام (والناس) الحركة، والأولى بالقضاء السكون.