لم تكن العلاقة بين لبنان والسعودية علاقة تعاون ودعم ورعاية واهتمام وحسب، بل تخطت كل ذلك على أهميته لتسمو إلى مرتبة العلاقة الأخوية بأعلى درجاتها لأن المملكة العربية السعودية التي مدّت يد العون للشعب اللبناني أيام الحرب والسلم، وقادت نهضة الإنماء والإعمار، لم تعمل وفق غايات معينة أو شروط مسبقة إنما الهدف كان دائماً مساعدة لبنان وأهله من دون تمييز بين منطقة وأخرى أو طائفة وأخرى.
واليوم، وبعدما وقع لبنان ضحية أزمات تهدّد وجوده وكيانه، يبدو أكثر من أي وقت مضى في حاجة إلى من تعوّد أن يتكئ عليه، ولم يخذله يوماً لا في وقت الضيق ولا في وقت الفرج، وذلك على الرغم من الأخطاء المميتة التي ارتكبها البعض بحق المملكة.
المناسبة في بكركي أمس كانت في الشكل ثقافية احتفالية بمئوية العلاقة بين البطريركية المارونية والمملكة العربية السعودية، إلا أن لها دلالات ورسائل سياسية في مختلف الاتجاهات.
أولاً، لا بد من التأكيد وبحسب مصادر مقربة من بكركي لـ”لبنان الكبير” أن السعودية كانت حريصة على أن يصدر كتاب “علاقة البطريركية المارونية بالمملكة العربية السعودية” للآباتي أنطوان ضو الانطوني، من الصرح البطريركي بالذات، وأن هذا القرار بالإطلالة من بكركي جاء بطلب من الملك السعودي ومن ولي عهده بالتنسيق مع السفير السعودي في لبنان.
الرسائل موجهة إلى كل الأطراف: مفادها أن بكركي كانت ولا تزال صرحاً لبنانياً يتوجه نحو العرب، ويؤمن بالعلاقات الأخوية بالدول العربية. كما وأنه تأكيد سعودي على العودة إلى لبنان ليس من باب الفريق إنما من باب الدولة التي يهمها الشراكة المسيحية- الغسلامية، وهذا الأمر ناتج من المواقف الوطنية التي ينادي بها البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي.
وتلفت المصادر إلى أن المناسبة أتت تتويجاً للعلاقة بين الموارنة والعرب وبين لبنان والسعودية. الأمر سيكون له تأثير في المستقبل لتأكيد هوية لبنان وانتمائه العربي، حيث جاءت كلمة البطريرك الراعي كمحضر حي لمسار هذه العلاقات بين البطريركية والمملكة السعودية، وهو أكد أن السعودية دولة شقيقة وصديقة، ووقفت دائماً إلى جانب لبنان. وحاول أن يقول للدول في المنطقة أو الذين يتدخلون في الشؤون اللبنانية، لماذا لا تكونون مثل السعودية التي لا تعتدي على حدود، ولا تعطل الاستحقاقات أو تعلق الدستور؟ وقال: “لم تعتدِ السعودية على سيادة لبنان ولم تنتهك استقلاله. لم تستبح حدوده ولم تورطه في حروب. لم تعطل ديمقراطيته ولم تتجاهل دولته. كانت السعودية تؤيد لبنان في المحافل العربية والدولية، تقدم له المساعدات المالية، وتستثمر في مشاريع نهضته الاقتصادية والعمرانية. كانت ترعى المصالحات والحلول، وكانت تستقبل اللبنانيين، وتوفر لهم الإقامة وفرص العمل”.
مع الإشارة إلى أن البطريرك الراعي عندما يشيد بالدور السعودي في لبنان لا يخرج على أمرين: أولاً، لم يخرج على الموضوعية لأن السعودية لم تكن في تاريخ علاقتها مع لبنان دولة معتدية أو سلبية، بل كانت دولة مسالمة وإيجابية. وثانياً، البطريرك لم يخرج بإشادته بالسعودية على حياد لبنان لأن الحياد لا يعني أن نفقد الأصدقاء أو نتجاهلهم، ولا يعني أن نساوي بين المعتدي والمسالم أو أن نساوي بين من يفيدنا ومن يضرنا.
البطريرك من خلال إشادته بالسعودية لا يأخذ محوراً من محاور المنطقة، إنما كان يتحدث خارج المحاور. وإذا كان حريصاً على تقدير الصداقة لدولة، هذا لا يعني مطلقاً الخروج عن الحياد، لأن التقدير ليس تموضعاً في محور. بكركي لا تتموضع في أي محور سياسي لا على الصعيد اللبناني ولا على الصعيد العربي والدولي. بكركي فوق الصراعات والخلافات، لكن لديها عيون ترى وآذان تسمع وقلب ينبض.
المناسبة رسالة موجهة أيضاً إلى كل الأطراف لتأييد مواقف بكركي وموضوع الحياد الإيجابي والمؤتمر الدولي، وتأييد البطريرك الراعي الذي يطالب بالسيادة والاستقلال، وبإيقاف المخطط التدميري للبنان، وتأييد البطريرك الذي تحدث باسم لبنان في الفاتيكان والذي يطالب بأن يكون قرار الشرعية حراً وأن يكون قرار لبنان مستقلاً.
السعودية تقول اليوم من خلال إصرارها على الإطلالة من الصرح البطريركي من خلال سفيرها: أنا أعود إلى رحاب لبنان من خلال بوابة بكركي، وهذا شيء عظيم ويجب على اللبنانيين الافتخار به خصوصاً المسيحيين والموارنة. وأتت المناسبة أيضاً تأكيداً سعودياً على أن من يراهن على ضمور وانكفاء وضعف وزوال الدور الماروني في لبنان مخطئ لأن العرب يراهنون ليكون الموارنة القوة التي تحافظ على لبنان السيد الحر المستقل حيث قال البخاري: “من صرح المحبة نطلق نداء السماء للأرض ونجدد العهد والوعد بدور المملكة العربية السعودية بنشر ثقافة السلام ومد جسور الوسطية والاعتدال وتعزيز سبل التعايش وحفظ كرامة الإنسان. ولأننا دعاة سلم وسلام، فإن مستقبلنا في هذا الشرق هو السلام، بعيدا كل البعد عن التعصب والطائفية والتطرف أيا كان مصدره وذريعته”.
ويؤكد المتابعون للمناسبة أن العلاقة بين لبنان والسعودية لم تشهد فتوراً، وأن المملكة لم تتخلّ عن لبنان، لكنها ساعدت كثيراً، ولم تلق طروحاتها آذاناً صاغية لا بل عمد البعض إلى أذيتها والتهجم عليها وصولاً إلى عداوتها.