استبشرت وزارة الطاقة اللبنانية خيراً مع توقيع لبنان اتفاقية مع العراق تقضي بحصوله على مليون طن سنوياً من النفط الأسود على أن يكون السداد بالسلع والخدمات الطبية، التي بالأصل يعاني لبنان من شحها وفقدانها، من أجل إبعاد شبح العتمة التي يغرق فيها اللبنانيون منذ أشهر بسبب أزمة فتح الاعتمادات بالدولار من قبل مصرف لبنان لزوم استيراد النفط. الأمر ذاته ينطبق على أزمة البنزين والأدوية التي وعد أمين عام حزب الله إيجاد مخارج إيرانية لها في التوقيت والزمان المناسبين في حال بقاء الدولة ساكتة متجاهلاً عمليات التهريب كعامل أساسي لتفاقم شح هذه المواد والسلع والتي يستطيع إيقافها بأمر مباشر منه.
في الظاهر، سيؤمن المليون طن من الفيول العراقي في حال الاستفادة القصوى منه ثلث حاجات مؤسسة كهرباء لبنان من المحروقات سنوياً، إلا أن سطور هذه الاتفاقية الملغمة تحمل في طياتها أهدافاً مشبوهة كتلك التي تحملها بواخر البنزين والأدوية الإيرانية. وفي هذا الإطار، يقول الكاتب والصحافي السياسي طوني بولس لموقع “لبنان الكبير”، إن هذه الاتفاقية ليست حلاً جذرياً لأزمة الكهرباء المرتبطة بشكل مباشر بكافة القطاعات الرئيسية التي تشكل ركائز الاقتصاد، ولا تُلبي احتياجات لبنان من الطاقة، بل ترقيعة بلا هدف وعملية التفاف بطريقة غير مباشرة على مصرف لبنان الذي يُطالب المجلس النيابي بإقرار مشروع قانون لتغطية أي سلفة مالية قادمة لدعم المازوت، مشيراً إلى أن هذه الخطوة باعتقاد المعنيين ستؤمن للبنان الحد الأدنى من الفيول وستخفف الضغط على المجلس الذي سيتحرّر من الالتزام بفتح الاعتمادات تجنباً لمزيد من الأزمات السياسية، علماً بأن فتح الاعتمادات من المركزي كما جرت العادة دون اللجوء إلى هذه الإلتفافة والمحافظة على أموال العراقيين كانت ستؤدي إلى النتيجة ذاتها، وربما كانت الاستفادة من الفريش دولار أكثر بكثير.
واعتبر بولس أن هذا الحل لن يخلق حالة من الاستقرار لأن شركة سومو العراقية المزودة للنفط هي جزء من منظمة أوبك التي تسعى إلى تخفيض إنتاج النفط عالمياً. وبحسب الاتفاقية، فإن المليون طن من الفيول سيكون من ضمن فائض الإنتاج العراقي، ما يعني أنه في حال احتاج العراق إلى هذا الفائض، فإنه لن يكون ملزماً بإعطاء الكمية كاملةً للبنان. وهذا ما أكّد عليه تصريح وزير الطاقة ريمون غجر الذي أقرّ بأن هذه الاتفاقية لن تُحسن التغذية الكهربائية باعتبار أن المليون طن ستمنح تغذية كهربائية إضافية بما يعادل 5 أو 6 ساعات يومياً لمدة 6 أشهر، لتتقلّص إلى 3 ساعات في حال أراد لبنان الاستفادة منها لمدّة سنة. كما أن هذا النفط الخام بحاجة إلى تكرير وهو ما سيشكل عبئاً مالياً إضافياً على لبنان، فالحصول عليه عن طريق الـ Swap أو الـ Spot Cargo التي تحوم حوله شبهات الفساد منذ سنوات طويلة، تفتح المجال أمام غموض حول آلية التعاقد مع الشركات المعنية.
وبحسب بولس، فلبنان الذي كان يحصل على ملايين الدولارت من العراقيين من أجل الاستشفاء، سيُحرم اقتصاده من الفريش دولار مقابل ساعتين أو ثلاث ساعات كهرباء يومياً، بعد أن تمّ الاستغناء عن هذه الأموال من أجل استبدالها بالفيول مقابل خدمات صحية.
وبالتالي لن يدفع العراقيون دولاراً واحداً بعد الآن من أجل الحصول على الطبابة، لتصبح المعادلة أموال العراقيين التي كانت تدخل إلى لبنان مقابل المازوت.
وعن المستشفيات التي ستنخرط في هذه الاتفاقية، فستكون بمعظمها من المستشفيات الحكومية وتلك التي تدور في فلك حزب الله، وسيدفع لها مصرف لبنان من أموال العراقيين المحجوزة لديه مقابل الخدمات الطبية التي ستقدمها لهم بما يُعرف بالـ”لولار”.
أما المستشفيات الخاصة فلن تدخل في هذه الصفقة، وهي ليست في وارد زيادة أموالها المجمّدة في المصارف ولن تزيد العبء عليها مالياً، لأن كل ما تحتاجه اليوم هو الفريش دولار فقط لشراء الأدوات والمستلزمات الطبية من أجل الاستمرار.
وعن استيراد البنزين والدواء الإيراني، يصفها بولس بأنها عملية تمويل واضحة لحزب الله، فإيران اليوم ليست قادرة على إرسال الأموال مباشرة له، وترى في هذه الخطوة تعويضاً لا بأس به، إذ يستطيع الحزب بيع البنزين والأدوية في لبنان وسوريا وغيرها من البلدان التي يتمتع بنفوذ بها ليحصل بالمقابل على تمويل غير مباشر من خلال ثمنها.
وفي الوقت نفسه، يضرب ما يسمى بالكارتيلات الغربية الموجودة في لبنان.
وهنا يشير بولس إلى أن حجم سوق الأدوية اللبناني أكبر من حجم السوق الإيراني، لا سيما وأن المجتمع اللبناني هو مجتمع مستهلك للأدوية، علماً أنه كان يبلغ 1،5 مليار دولار سنوياً، وبعد جائحة كورونا ارتفع إلى 2،5 مليارين، ما جعله محط أطماع إيران للاستفادة منه.
أكثر من أسبوعين مرّا على توقيع اتفاقية “المقايضة” وحتى الآن لا تزال مفاعيلها غارقة في وعود وهمية، لا سيما مع تأخر وصول الشحنة الأولى من الفيول المعالج إلى لبنان، الأمر الذي يطرح العديد من علامات الاستفهام حول جدّية التماس أي تحسن في ساعات التغذية الكهربائية.
فالاتفاقية حتى اليوم تشوبها العديد من أوجه القصور أبرزها تلك الإدارية التي تتعلّق بإجراء المناقصات اللازمة للشركات التي ستكرّر النفط وتصدره إلى لبنان وحجم استفادة المستشفيات اللبنانية منها. أما عن شراء البنزين والأدوية الإيرانية، فقد منح التهريب الممنهج عبر الحدود مبرراً لدخولها إلى لبنان الذي يعاني من شح مفتعل بها.
من المفترض أن لبنان اليوم بلد مفلس، وعوض أن يحاول الجميع إيجاد الحلول المناسبة لأزماته، لا تزال عمليات السرقة والنهب على أشدها من قبل الكارتيلات التي تصر على أكل البيضة وتقشيرتها حتى الرمق الأخير في ظل قصور فكري في الاستراتيجيا وغياب الرؤية الوطنية الشاملة التي تسمح للمنظومة النفطية الخارجية باتخاذ الخيارات التي تناسبها كغطاء لتمويل أحزابها داخلياً وزجّ لبنان في المحور الخاص بها، ليكون بذلك الفيول العراقي والبنزين الإيراني المرتقب تمويلاً سياسياً بحتاً يفضح ما كان مستوراً.