وكأنّ لبنان في العصر الجليدي، يواجه موجات صقيع تتدنّى درجاتها إلى ما دون الصفر على مقياس حلّ الأزمات المتوالية، وباتت أبوابه مشرّعة أمام العواصف من كل حدب وصوب، بعدما تلاشت الدولة وانشلّت سلطتها التنفيذية، وتعطلت الدوائر الرسمية، وبات القضاء رهينة التجاذبات السياسية، إضافة إلى الانهيارات المعيشية والحياتية والصحية، وصولاً إلى إمكان نسف الانتخابات النيابية التي يعوّل عليها الكثيرون لتغيير المعادلة السياسية، ويضغط المجتمع الدولي لإجرائها في موعدها.
إذاً، رحلة إبحار الانتخابات النيابية تصطدم بجبال جليدية ربما تعطّلها وتنسفها وتغرقها عميقاً في محيطات الكيديات والمصالح الشخصية لفريق ربما رياح الانتخابات تجري بما لا تشتهيه سفن تطلّعاته ومكاسبه الشعبية، وهو يستعدّ لتقديم طعن بالتعديلات على قانون الانتخابات الذي أقرّه البرلمان قبل أسبوعين، بعد نشر القانون في الجريدة الرسمية. إذ أعلن عضو تكتل “لبنان القوي” النائب ألان عون أنّ “التكتل” يحضّر لتقديم طعن بقانون الانتخاب أمام المجلس الدستوري، مبني على الأسباب التي ردّ على أساسها رئيس الجمهورية ميشال عون قانون تعديل قانون الانتخاب، وسيقدّم ضمن المهل أي قبل 20 تشرين الثاني الجاري، إذ ينصّ القانون على تقديم الطعن خلال مهلة 15 يوماً بعد نشره في الجريدة الرسمية، كما ينصّ على أنّ المجلس الدستوري ينظر في الطعن خلال مهلة شهر بعد تقديمه إليه.
وفي وقت أكد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أنّ “الانتخابات النيابيّة ستحصل قبل 21 أيار المقبل ولا شيء سيمنع إقامتها”، أعلن وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي أنّ “هدفنا إجراء الانتخابات بمواعيدها، وندعو المنظمات الدولية والمحلية لمراقبتها، وبدأنا الاجراءات التحضيرية لها”.
ويستند “التيار الوطني الحر” في الطعن إلى ما أسماه ثغراً شابت التعديلات الأخيرة التي لحقت بالقانون الانتخابي النافذ، لا سيّما لجهة التصويت بأكثريّة عدديّة حضوريّة مغايرة لتلك التي يُحدّدها الدستور بخمسة وستّين نائباً، ولجهة تقديم موعد الانتخابات من دون سبب وجيه، عدم الأخذ بمطلب تخصيص المغتربين بستة مقاعد نيابية، ورفض اعتماد “البطاقة الممغنطة” ومراكز التصويت المركزية (الميغاسنتر).
نقاط لا تشكل مادة للطعن
وللإحاطة القانونية بالموضوع، وإن كانت الثغر التي استند إليها نواب تكتل “لبنان القوي” يمكن أن تكون أسباباً جوهرية لقبول الطعن، تحدّث “لبنان الكبير” مع المحامي والخبير الدستوري سعيد مالك، الذي أوضح أنه في ما خصّ الميغاسنتر “فهو غير موجود في قانون الانتخابات 44\2017، وبالتالي لا يعتبر التعديل قد طال قانون الانتخاب، لكونه في الأساس ليس هناك من ذكر للميغاسنتر في القانون، على الرغم من أنّ هذه الخطوة تعتبر إصلاحية ومطلوبة في الانتخابات المقبلة”.
أما بالنسبة إلى البطاقة الممغنطة، فلفت إلى أنه “من الثابت أنّ إمكانية إنجازها باتت متعذّرة، لا سيما مع ضغط الوقت والمهل من جهة، ونظراً للكلفة الباهظة التي تعجز الدولة عن تأمينها من جهة أخرى، فضلاً عن أنّ هناك رأياً لهيئة التشريع والاستشارات في دورة انتخابات 2018، إذ جاءت النتيجة أنّ عدم إصدار هذه البطاقة لا يؤدّي إلى إبطال الانتخابات، فلا شيء يحول دون الاستمرار في العملية الانتخابية من دون هذه البطاقة”.
وفي ما يتعلق بالمقاعد الستة المخصصة للمنتشرين، قال مالك: “لا أظن أنّ هذه النقطة تشكل مادة للطعن، لأنه حينما نذهب للكلام عن الحقوق المكتسبة والأمان التشريعي، يجب أن يكون أولاً قد حرم المقترع من ممارسة حقه في الانتخابات. ما حصل اليوم تعليق المواد المتعلقة باستحداث الدائرة 16، أي دائرة المنتشرين، لكن عوضاً عن ذلك، أصبح للمنتشرين الحق بالمشاركة بالعملية الانتخابية على مدى الوطن وفي الدائرة التي ينتمون اليها. لو ذهب هذا التعليق إلى حرمان حق المقترع من المشاركة في أي اقتراع، عندها يمكن الكلام عن الحقوق المكتسبة. لكن اليوم حين نجيز للمغترب المشاركة، كما شارك عام 2018، لا نكون في سياق حرمانه من هذه الحقوق. إضافة إلى ذلك، فإنّ المادة 112 والمادة 118 فقرة أولى والمادة 121 و122 المتعلقة باستحداث 6 مقاعد لدائرة الانتشار، فهي أساساً مخالفة لأحكام المادة 24 من الدستور، وبالتالي لا يمكن أن نكتسب حقاً مكتسباً استناداً إلى مادة قانونية مُخالفة لأحكام الدستور. كما أنّ هذه المواد لم تُفعّل، إنما بقيت حبراً على ورق في قانون الانتخاب 44\2017، وبالتالي لا مكان للكلام عن حقوق مكتسبة لحقوق لم تُمارس بالأصل”.
وفي موضوع تحديد موعد الانتخابات، أوضح أنّ “الثابت أنّ القانون لم يتضمّن تحديداً لموعد انتخابات، إنما كان يتضمّن توصية جاءت بالأسباب الموجبة، إلى الحكومة لإجراء الانتخابات في هذا التاريخ، أي 27 آذار. واليوم مجلس النواب له حق إصدار التوصيات، طالما لم تقترن بصيغة القرار الملزم. وبالتالي يحق للحكومة أن تأخذ بهذه التوصية، كما يحق لها ألا تأخذ بها. مما يفيد أنّ هذا الأمر لن يؤدّي إلى إبطال القانون المطعون به. وتحديد تاريخ الانتخاب يعود إلى السلطة الإجرائية، وبالتالي يمكن تغيير موعدها، وما أقدم عليه مجلس النواب هو إصدار توصية بتقريب موعدها. هل تأخذ الحكومة بهذه التوصية أو لا، فالأمر يعود لها، لأنه استناداً إلى أحكام الدستور، يجب أن تجرى الانتخابات قبل 60 يوماً من انتهاء الولاية، وبالتالي موعد آذار ضمن مهلة الـ60 يوماً، كما أنّ موعد أيار ضمن الـ60 يوماً. وعلى الحكومة تحديد الموعد. ولا أرى أنّ هذه النقطة تشكل سبباً للطعن”.
على المجلس الدستوري إعلاء مصلحة المواطن
أما في ما خصّ موضوع النصاب، وعما إذا كانت الأغلبية المطلقة تحتسب على أساس الـ 128 أو على أساس الـ 117 نائباً، فلفت مالك إلى أنّ “هناك اجتهادات متضاربة بهذا الخصوص، ومبدئياً ثمة قرارات صدرت عن اللجان المشتركة في مجلس النواب، وقرار صدر عن الهيئة العامة في تاريخ سابق، اعتمد نصاب الـ117 أي اعتمد نصاب النواب الأحياء. هذه النقطة تحديداً في حاجة إلى تفسير من المجلس الدستوري الذي ليس مخوّلاً تفسير الدستور. لكن عندما يحصل طعن يتعلّق بمادة دستورية معيّنة، فالمجلس الدستوري يستطيع تفسير هذه المادة بشكل يكون ملزماً مستقبلاً لمجلس النواب. وبالتالي، نحن بانتظار إذا كان قد تضمّن الطعن هذه النقطة. قرار المجلس الدستوري الذي سيفصل ما إذا كان النصاب يمكن أن يُستوفى على أساس 128 نائباً أو على أساس النواب الأحياء الـ 117”.
وشدّد على أنّ “المجلس الدستوري مؤتمن على قيام الدستور والمؤسسات والقواعد الأساسية لحقوق المواطن والمواطنة. وفي حال ذهب إلى الطعن بهذا القانون، وإلى إعادة الدائرة 16 واقتراع المنتشرين لستّ نواب، فهنا السؤال المطروح: هل باستطاعة الوزارات المعنية والإدارات المختصّة إنجاز هذا الاستحقاق، إن على الصعيد اللوجيستي أو الإداري، عن طريق إصدار مراسيم تنظيمية وتطبيقية من أجل استحداث هذه الدائرة، ضمن إطار ما يمكن أن يعترض ذلك من اشكالات، لا سيما لجهة تحديد المقاعد والمذاهب، واستناداً إلى أي آلية؟ وفي حال ذهب المجلس الدستوري إلى إبطال هذا التعديل، نكون كمن حرم شريحة المغتربين من المشاركة في الاستحقاق الانتخابي، وهذا يخالف أحكام مبدأ المساواة بين المواطنين المقيمين والمغتربين. وبالتالي، على المجلس الدستوري، وبكل الأحوال، وبعيداً من النقاط الدستورية، ومما إذا كان القانون مشكوكاً بدستوريته أو مطعوناً بها، إعلاء مصلحة المواطن وتغليب قاعدة السماح والإجازة له بالمشاركة في الانتخابات النيابية ولو على حساب قانون مشكوك بدستوريته”.
باستطاعة أهل السلطة التحكّم بمصير المجلس الدستوري
وعن السيناريوات في حال قبل المجلس الدستوري الطعن أو لم يقبله، رأى مالك أنه “عملياً، الانتخابات ستجري حكماً، سواء في آذار أو أيار. إنه قرار تحدّد موعده الحكومة. في حال لم يقبل الطعن، فالتعديلات تبقى قائمة، والتعديل على المواد يبقى نافذاً، إضافة إلى تعليق المواد التي علّقها مجلس النواب فتبقى معلّقة، وبالتالي ليس ثمة أي اشكال في حال رفض الطعن. أما في حال قبوله، فنكون عدنا إلى ضرورة استحداث الدائرة 16، أي دائرة المغتربين. وهذا أمر غير ممكن لوجستياً، مما يعني أنّ المغترب سيُحرم من حقه في الاقتراع، وسيُضحى به ككبش محرقة من أجل لَي الأذرع بين الأطراف السياسية، فيما المطلوب الإجازة لكل منتشر ومغترب المشاركة في هذا الاستحقاق الدستوري”.
ولفت مالك إلى أنه “في حال كان هناك من غلبة سياسية على عمل المجلس الدستوري، فسيظهر ذلك جلياً مع انعقاد المجلس، لأنّ انعقاده يتوجّب تأمين نصاب 8 من 10 أعضاء. وكلنا يعلم أنّ المجلس الدستوري مشكّل بالمحاصصة بين الأطراف السياسية. في حال كان هناك قرار بإفشاله وعدم سماح الإجازة له بلعب دوره، فيكفي أن يتغيّب 3 أعضاء من 10 حتى لا يستطيع المجلس الاجتماع، ليقرّر إما قبول الطعن أو ردّه”، مشدداً على أنه باستطاعة أهل السلطة أن يتحكّموا بمصير المجلس الدستوري استناداً لقاعدة النصاب، لكن الرهان دائماً على استقلالية أعضائه ورئيسه وصدقيتهم، ليتمكنوا من إحقاق الحق وقول الحقيقة مهما كانت صعبة. وإذا تكرّر فقدان النصاب، فتجري الانتخابات على أساس التعديل الحاصل، إذ أنه عندما يُقدّم الطعن، يصبح بمثابة المردود بعد انقضاء شهر”.