منذ الاستقلال حتّى عام 2018، ثمّة محطّات انتخابية كانت بمنزلة منعطفات تاريخية أسهمت في تغيير وجه الحكم ومسار الدولة.
بيد أنّ الانتخابات النيابية القادمة، وحسبما تقول استطلاعات الرأي وتوحي به المؤشّرات، وإذا ما استمرّت الأمور سائرة على المنوال نفسه، فإنّها ستكون الانعطافة التاريخيّة الكبرى والأبرز في تاريخ لبنان المعاصر، لأنّها ستشهد سيطرة حزب الله على مجلس النواب، للمرّة الثانية على التوالي، بشكل يمكّنه من القول للمجتمع الدولي: أنا لبنان ولبنان أنا، ولا يمكنك أن تنعت شعباً بأنّه إرهابي.
مجلس حزب الله
حزب الله هو الأكثر استعداداً وجهوزيّةً لهذه الانتخابات. فبينما ينشغل الآخرون بالنقاش في جنس الملائكة، وفي الصراعات البينيّة، والجدالات التي لا تنتهي حول الترشيحات، يقوم الحزب إيّاه بهدوء وثقة بإعداد وتطريز آخر العقد في الثوب الانتخابي للحلفاء على امتداد رقعة الأراضي اللبنانية.
مخطئ من يظنّ أنّ حزب الله يرغب في تأجيل الانتخابات النيابية كُرمى عيون حليفه التيّار العوني، بل على العكس تماماً فهو يريد الانتخابات بشدّة، واليوم قبل الغد، ليقينه بأنّه فائز حتماً بأكثريّة تضاهي الثلثين فيها حصّة فائضة من النواب السنّة. وهو ما لم يتأتّى لأيّ حزب أو جبهة سياسية الحصول عليه سابقاً.
أحد الوجوه التاريخية الأخرى للانتخابات هو أنّها ستكون المحطة الانتخابية الأكثر فوضويةً وفساداً في تاريخ البلاد
وأيّ تأجيل للانتخابات ربّما يؤدّي إلى حدوث متغيّرات في الزمن الفاصل عنها تقلب المعادلات رأساً على عقب، خاصّة أنّ النظام العالمي يشهد تحوّلات كبرى من الصعب التكهّن بمآلاتها، وبالقرابين التي قد تُقدّم على مذابح صفقاتها، فهل كان حزب الله يتخيّل أن تقف روسيا عقبة أمام إنجاز الاتّفاق النووي مع إيران؟
من هنا لا مصلحة لحزب الله بالتأجيل خوفاً من انعكاس التحوّلات الدولية على الساحة اللبنانية، وجعل الأكثرية النيابية، التي تبدو في جيبه اليوم، في مهبّ رياح تغيير الأمزجة الإقليمية.
هزيمة السُنّة ودخول الأحباش
لم يكن السُنّة يوماً بمثل هذا القدر من التشرذم والضعف إلّا عند تأسيس دولة لبنان الكبير وفي عقد العشرينيّات. وبمعزل عن نجاح الجهود اليائسة لبعض الشخصيّات السنّيّة، لتكوين نواة جبهة سياسية سنّيّة تخفّف من وطأة الهزيمة، لكنّ الهزيمة واقعة لا محالة.
تبدو الساحة السنّيّة مشرّعة اليوم أمام مشاريع كثيرة لا تعدو كونها أضغاث أحلام ونفخ للأنا على حساب المشروع السياسي المفقود. فالانقسام هو سيّد الموقف، والمعارضة معارضات، والمستقبل تيّارات، والنخب اتّفقت على أنْ لا تتّفق أبداً، لتكون النتيجة الحتميّة أنّ قرار الطائفة سيصبح بعد الانتخابات في يد حزب الله، الذي سيتمكّن من تحقيق حلم طال انتظاره بأنْ يكون حاكم القرار السنّيّ.
في هذا السياق، ليس تفصيلاً بسيطاً أبداً حصول “جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية” على كتلة نيابية. فالجماعة التي انسحبت من الميدان السياسي إلى الظلّ عقب ورود اسم قياديّين فيها في لائحة المتّهمين –الأبرياء لاحقاً- بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تمكّنت من الحفاظ على وحدتها وحماية تنظيمها من التفكّك والاندثار الذي ضرب سائر جماعات الإسلام السياسي. وها هي تقف اليوم على أعتاب دخول التاريخ من أوسع أبوابه بحصولها على كتلة نيابية من 3 إلى 4 نواب، وهو ما لم يسعْها الحصول عليه في عزّ سيطرة نظام الوصاية السوري، أضف إلى ذلك افتقارها إلى التمثيل البرلماني في أيّ بلد آخر.
كسر النفوذ الجنبلاطيّ
منذ أربعة قرون وآل جنبلاط رقم سياسي صعب المنال لا يمكن تجاوزه أو إلغاؤه. والمثال الأنصع على ذلك هو أنّ خسارة أو تخسير الزعيم كمال جنبلاط في انتخابات عام 1957 لم تفضِ الى إضعافه سياسياً، بل زادت من شعبيّته كثيراً وضاعفت من تأثيره في المعادلة السياسية. وفي زمن الوصاية، وعلى الرغم من كلّ التقلّبات في العلاقة بين وليد جنبلاط ودمشق، إلّا أنّ الأخيرة كانت حريصة على عدم كسره أو إلغائه.
أمّا اليوم، فإنّ حزب الله يضع كسر جنبلاط أحد الأهداف الرئيسية لمعركته الانتخابية. هو لا يريد إلغاءه بل تقويض نفوذه وتقليصه إلى أدنى الحدود الممكنة، ومقاسمته القرار الدرزي عبر كتلة من خصومه الدروز توازي ما عنده أو تزيد، تجتمع عند الحاجة، وخاصّة عند طرح الخيارات الاستراتيجية الكبرى.
مخطئ من يظنّ أنّ حزب الله يرغب في تأجيل الانتخابات النيابية كُرمى عيون حليفه التيّار العوني، بل على العكس تماماً فهو يريد الانتخابات بشدّة، واليوم قبل الغد
المسيحيّون الأقوياء والصوت المسلم
عند إقرار قانون الانتخابات الحالي، سوّق التيّار العوني وحزب القوّات اللبنانية لنظرية مفادها أنّهما حقّقا انتصاراً تاريخياً للمسيحيّين بتحرير المقاعد المسيحية من هيمنة الصوت المسلم. لكن عند النظر إلى حالهما اليوم، نجد أنّ التيار العوني، المُقِرّ بحتميّة تراجع عدد نواب كتلته، يلوذ بحزب الله وبالرئيس نبيه برّي، خصمه الأول حالياً، للحصول على أصوات جمهورهما. وإلّا فلنْ يكون بمقدوره الفوز إلّا بكتلة لا يتعدّى عدد أعضائها أصابع اليد الواحدة.
الحال عينه ينطبق على حزب القوات الذي وإنْ أشارت استطلاعات الرأي إلى تقدّمه على الساحة المسيحية، فإنّه لن يستطيع تقريش هذا التقدّم بدون الصوت المسلم، ويظهر هذا الأمر جليّاً في عكّار وطرابلس والبقاعين الغربي والأوسط، وبعلبك – الهرمل، ودائرة صيدا – جزّين. وحتى بيروت الأولى المسيحية وزحلة والكورة، يجهد حزب القوات في مغازلة أصواتها السنّيّة.
عليه، وبمعزل عن الطرف الذي سيتفوّق على الآخر على الصعيد المسيحي انتخابيّاً، فإنّ كليهما سيكونان بحاجة إلى حزب الله. فلا التيّار العوني يستطيع الحكم من دونه، ولا حزب القوات يستطيع القيام بأيّ خطوة ضدّ الحزب إيّاه إلّا إذا كان في الحكم، ولا حكومة من دون موافقة حزب الله صاحب الأكثريّة في ظلّ الضياع السنّيّ. وإذا كان حزب الله شريكاً مضارباً في تشكيل الحكومات سابقاً، فإنّه بعد الانتخابات سيصبح المرجعيّة الوحيدة لتشكيل الحكومات، وهو الذي سيقرّر من ينتخب رئيساً للجمهورية، وحينئذٍ ما نفع انتصار القوات؟
الفوضى والفساد
أحد الوجوه التاريخية الأخرى للانتخابات هو أنّها ستكون المحطة الانتخابية الأكثر فوضويةً وفساداً في تاريخ البلاد. فالأزمة الاقتصادية الخانقة ستفضي إلى شراء أصواتٍ أكثر من السابق بكثير وبأبخس الأثمان. في حين أنّ الأزمات المتناسلة في الكهرباء والوقود والإنترنت، تجعل إمكانية احتساب الأصوات يدويّاً وفي الظلام أمراً وارداً جدّاً، وهو ما يفتح باب التلاعب على مصراعيه، خاصّة في أقلام الاقتراع في المناطق النائية أو الخارجة نسبياً عن سيطرة الدولة.
ومن الأمور المثيرة للشكّ والريبة رفض أميركا والاتّحاد الأوروبي، وعلى رأسه فرنسا، تقديم أيّ دعم مالي جوهري لجهة الإشراف على الانتخابات، التي يتمّ تقويض عملها من قبل السلطة عبر الميزانية المحدودة التي مُنحت لها، وهي لم تنلْ منها أصلاً سوى مبلغ ضئيل جدّاً لا يكفي لطباعة اللوائح.
يدفعنا سوء الظن والتجارب المريرة السابقة إلى الاعتقاد بأنّ الدول الغربية تمهّد الطريق أمام فوز تاريخي لحزب الله، ولا سيّما أنّها لا تمارس أيّ جهد على قوى التغيير لتجميعها في لوائح موحّدة، بل على العكس تبدو كأنّها راضية عن انقساماتها، وهي التي تُغدق عليها الأموال من دون حساب مع إدراكها بأنّ هذه القوى هي نسخة أكثر رداءة من قوى السلطة.