أثبتت الأبحاث العالمية أن اللبنانيين هم أكثر الشعوب غضباً في العالم.
نعم هم غاضبون على الحال التي وصلوا إليها: شقا عمرهم تبخر في المصارف، رواتبهم أصبحت تساوي فاتورة مولد الكهرباء، محروقاتهم وخبزهم لا يحصلون عليها إلا بالطوابير، تعليم أولادهم أصبح يحتاج إلى بيع بعض أعضائهم، وطبابتهم باتت تعتمد على كرم الجمعيات والمغتربين، ولكن بدل أن يسحلوا من أوصلهم إلى هذه الحال في الشوارع، ها هم ينفسون عن غضبهم على مواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت بحد ذاتها خدمة للأغنياء فقط بسبب أسعار الاتصالات الجديدة، التي دخلت حيز التنفيذ منذ يومين (1 تموز حسب وقت النشر).
ولكن هناك أمر لافت في تفاعل اللبنانيين على مواقع التواصل، حيث لا يُهاجم السياسيون، بقدر ما يُهاجم أي صحافي يكتب مقالاً وينشره، لأنه لا يتوافق مع معتقداتهم وانتماءاتهم، لا بل الأسوأ يهاجمون أي منشور بحسب عنوانه فقط، من دون أن يقرأوا تفاصيل الخبر أو المقال، ويزلزلون مواقع التواصل باسم الكاتب، وتبدأ حملة التحريض والهجوم، علماً أن الكاتب في معظم الأحيان يكون ينقل وجهة نظر أحد ما، أو وجهتي نظر المحورين المشتبكين في البلد، وهذا لا يعجب الشعب الغاضب، الذي يريد أن يكتب وجهة نظره “المحقة” وحدها، ويبجل زعيمه القديس الذي لا يخطئ أبداً، فهو أصلاً معصوم عن الخطأ، وقد خلقه الله أعلى مرتبة من البشر أجمعين.
الموضوع لا يقف عند مقال ما أو عنوانه فحسب، بل تخطى ذلك لدرجة أصبح معها استعمال بعض المصطلحات خطيئة كبرى، فممنوع مثلاً أن تكتب منشوراً تستعمل فيه مصطلح “البيئة الشيعية”، حتى لو كان لنقد حالة تؤثر على الشيعة أنفسهم وإلا ستلقى هجوماً من جيوش الكترونية مؤللة، وهنا الحديث ليس عن أمور سياسية بل اقتصادية ومعيشية.
مثال آخر على ذلك، ممنوع أن تكتب مصطلح “المارونية السياسية”، وإلا تتعرض لهجوم واسع يتهمك بالطائفية وضرب حقوق المسيحيين، ومحاولة تهميشهم من جديد، علماً أنه مصطلح سياسي يتكلم عن حقبة معينة من تاريخ لبنان.
كذلك أصبحت هناك مصطلحات مسجلة باسم أفرقاء سياسيين، لا يحق لأحد استعمالها باستثنائهم، فمثلاً جمهور “حزب الله” لا يقبل أن يكون أحد غير الحزب مقاومة. جمهور “التيار الوطني الحر”، يعتبر تياره وحده مكافحاً للفساد، ولا يحق لأحد غيره التكلم بذلك.
جمهور “القوات” يكوي الزيتي عندما يعلن أي أحد غير حزبه أنه ثائر. حتى أن بعض الأحزاب الجديدة مثل “ممفد”، يحتكر جمهورها الحل الاقتصادي، وممنوع أن تكون هناك أي رؤية أخرى غير “اللينك” الشهير.
الأمثلة كثيرة، وهي تقريباً موجودة عند كل الأحزاب اللبنانية، وطبعاً الحديث هو عن الجمهور على مواقع التواصل، وليس قيادات هذه الأحزاب، التي تعرف اللعبة السياسية في البلد جيداً، وتعرف كيف تحقن جمهورها بكل البروباغندا التي تشد عصبه، وتبقيه في كنفها.
تبدو مواقع التواصل اليوم كأنها المساحة للاعتراض بدلاً من الشارع، والأمر ليس في لبنان وحسب، بل إن أقوى دول العالم تراقب هذه المواقع، لتعرف كيف تستطيع ارضاء شعبها عبر ايجاد الحل لاعتراضاته وشكاويه التي ينشر عنها ويتذمر منها.
إلا أن القوى السياسية في لبنان، تبدو في ميل والشعب في ميل.
فالشعب يريد أن يأكل ويشرب ويطمئن الى مستقبله، والسياسيون يتناتشون الحصص في الحكومة، وبدل أن يسائلهم الشعب، يصب غضبه على الأشخاص الخطأ على مواقع التواصل، بل ويضع كل فريق مقارنات ليست في محلها أصلاً، فما دخل الرقص بالأناشيد مثلاً؟ وكيف يصبح من يفضل الرقص منحلاً أخلاقياً، وتفضيل الأناشيد هو ثقافة الموت؟ هذا جدال يجري اليوم بسبب مقطعين مصورين ينتشران بكثافة على مواقع التواصل، وتشتبك الجيوش الالكترونية في ما بينها حول الرؤيتين، وتسقط صفة التعايش عن لبنان، ويكاد يشعر من يراقب ذلك أن البلد مقسم إلى دويلات، وكل دويلة تريد فرض أيديولوجيتها على الأخرى.