في خضم الأزمات التي يعيشها العالم، والتأثيرات التي تتعرض لها كل دولة بسبب أزمات دول الجوار والأزمات المحلية، تبقى أزمة الغذاء هي الأهم والأكثر تأثراً بعوامل عديدة. فمع اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية اشتدت أزمة المحاصيل خصوصاً القمح، ولكن الحرب لم تكن سوى عامل مساعد لتضاعف الأزمة الغذائية محلياً وعالمياً.
يعتمد الشرق الأوسط بصورة كبيرة على الواردات لتوفير الأغذية، إذ نرى في لبنان أنّ نسبة استيراد المواد الغذائية بأنواعها كافة مرتفعة جدّاً، وهذا الارتفاع يعود إلى الظروف الاقتصادية، نقص مياه الري والأراضي الصالحة للزراعة. واليوم مع الغلاء العالمي نتيجة الحرب والعوامل الأخرى باتت الأسعار في الأسواق العالمية مرتفعة جدّاً وبالتالي تراجع الاستيراد بنسبة كبيرة واتجه الكثيرون الى الانتاج الوطني.
لكن الأزمة ليست ناتجة عن تراجع الاستيراد وحسب، والانتاج الوطني لا يكفي فقط لتغطية ثغرة نقص المواد الغذائية. فلا يمكن أن ننسى أن قدرات جميع الدول في الشرق الأوسط متفاوتة وما تقدر عليه دولة، لا تقدر عليه أخرى. تختلف الامكانات، وبالتالي الكثير من الموارد لا تتأمن في المواسم كافة، إلى جانب حرارة كل فصل سواء الصيف أم الشتاء، فمثلاً موجات الحر المرتفعة قد تضرب المحاصيل وتتلفها. وتتراجع نسبة الزراعة نتيجة هذه الأسباب المناخية ليس بسبب درجات الحرارة وحسب، بل بنسبة ثاني أوكسيد الكربون وتوفُّر المياه والجفاف كذلك، كلّها تقع تحت مسمى التغير المناخي الذي يعتبر أهم العوامل في التأثير على الزراعة والمحاصيل، إلى جانب الأسباب البيئية كسلامة التربة وخصوبتها.
لا يمكن الاستغناء عن أي مورد من موارد الغذاء، لذلك فان عدم توافر مورد معين مقابل كثرة نوع آخر لا يعتبر إيجابياً، فعندما نتكلم عن الغذاء نحن نتكلم عن صحة جسم الانسان والحاجة الماسة الى كل مورد لما يعطيه من منافع.
في الدراسة المنشورة في دورية (Environmental Research Letter) عام 2012، حلَّل الباحثون التأثير المتوقَّع للتغير المناخي على المحاصيل الثمانية الكبيرة في منطقتَيْ أفريقيا وشرق آسيا، اللتين تعانيان بالفعل من تذبذب الأمن الغذائي، وذلك عبر التحليل التلوي والمراجعة المنهجية (Meta-analysis & systematic review) للبيانات من 52 دراسة أصلية منشورة. وتتوقَّع الدراسة أنه بحلول العام 2050 سيقل إثمار المحاصيل في المنطقتين بنسبة 8%، ولكن في أفريقيا وحدها من المتوقَّع أن يقل بنسبة تصل إلى 40% لكل المحاصيل.
وسيفقد محصول القمح خصوصاً ما مقداره 17% من إنتاجيته، ما يعني أن رغيف الخبز مُهدَّد بالاختفاء، بحيث من المُحتمَل أن يؤدي تناقص هطول الأمطار على المنطقة مع ارتفاع درجات الحرارة إلى تقصير فترات زراعة القمح أسبوعين كاملين بحلول منتصف القرن الحالي، ومن ثم تناقص إنتاجيته، نظراً الى أن المياه المختزنة في التربة ستتبخَّر بمعدل أسرع من أي وقت مضى.
القمح يعتبر من أهم المواد الغذائية في العالم والشرق الأوسط وشمال أفريقيا خصوصاً، فهذا المكون ينتج عنه أهم مورد غذائي وهو الخبز الذي بات ينعدم اليوم تدريجياً في لبنان بالدرجة الأولى. الطحين الذي ينتج عن القمح، يساهم بدوره في إنتاج النشويات وأهمها الخبز بأنواعه كافة والمعكرونة والمخبوزات (كرواسان، فطائر، كعك…) ويُوفر القمح إلى جانب كل من الأرز والذرة ما مجموعه 60% من مدخول الطاقة الغذائية في العالم. واقعة انخفاض محصول القمح بسبب الجفاف الذي ضرب الصين وروسيا، والأمطار الشديدة التي ألمَّت بكندا بين العامَين 2010 -2011، وهي من أكبر الدول المُصدِّرة للقمح إلى منطقتنا، أدَّى إلى عجز في صادرات البلاد من المحصول الحيوي خلال تلك الفترة.
اليوم وفي المستقبل الأمن الغذائي مهدد ليس بسبب العوامل البيئية والمناخية وحسب، بل بسبب الحروب التي تعيشها الدول والصراعات على بعض المواد اضافة إلى أوضاع البلاد الاقتصادية والمعيشية. عندما منعت روسيا تصدير القمح في العام 2010 بعد الموجات الحارة التي ضربت البلاد، زادت أسعار القمح الى الضِّعف في العالم كله بنهاية العام. كما أثّر التغير المناخي على ارتفاع أسعار الغذاء، الذي تسبب في زيادة عدد المواطنين تحت خط الفقر المدقع، كما حدث في العام 2010 حينما أدى ارتفاع أسعار الغذاء إلى إدراج 44 مليون شخص في طبقة الفقر المدقع في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، وفقاً لدراسة أجراها البنك الدولي في 2011.
رمال: انعدام الرؤية أدى إلى إفقار الشعوب
في هذا السياق، أوضح عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي عدنان رمّال لـ”لبنان الكبير” أنّ “الدراسات عن قلة إثمار المحاصيل مرتبطة أكثر بتغير المناخ فمجرد أن يكون هناك تغير مناخي تصبح البيئة غير مناسبة للمزروعات”.
وعلى الصعيد المحلي، قال: “في موضوع الغذاء في لبنان لدينا مشكلة سابقة ولا تزال موجودة وهي توجهنا إلى دعم الاقتصادات الاستهلاكية أكثر من الانتاج، نحن بلد مستهلك ونستورد بنسبة 85% من استهلاكنا الغذائي وغير الغذائي. يمكن أن نجد صعوبة في القيام بصناعات ثقيلة لكن من السهولة أن نقوم بصناعات تحويلية مبنية من الزراعة لأننا نملك سهولاً وأراضي ومساحات شاسعة، ولا يزال لدينا جزء كبير من الأراضي يمكن استثمارها للزراعة. لكن المشكلة أنّه لم يكن هناك دعم للزراعة والقطاعات الانتاجية بحيث تتحول الزراعة إلى صناعة لاحقاً ويكون الحد الأدنى تأمين غذائنا من خلال انتاجنا. وبالتالي نحن اليوم نستورد حتى الألبان والأجبان، التي هي أشياء بديهية يجب أن تكون موجودة في البلد، كما أنّنا نستورد القمح وهو يُزرع في لبنان. واليوم إذا أردنا أن نروي مزروعاتنا بمياه مبتذلة، فمن الممكن أن تؤدي إلى أمراض مميتة، لذلك بات اللبناني يخاف على صحته من الاستهلاك اللبناني”.
وبالنسبة إلى عامل تغير المناخ وهو الأهم اليوم في موضوع الأمن الغذائي، أكد رمّال أن “التغير المناخي سوف يؤثر على العالم كله في الانتاج الغذائي، أما لبنان فلديه مشكلتان، مشكلة التغير المناخي طويل الأمد ومشكلة المياه والمساحات الموجودة، يعني لم تعد هناك مساحات مخصصة للزراعة. كان هناك تصنيف في البداية: أراض زراعية، صناعية ، سكنية، لكن اليوم تداخلت الأمور ببعضها البعض، وأصبحت المناطق الصناعية قليلة جداً ومن دون بنى تحتية صحيحة، وبالتالي دخلت المناطق السكنية عليها، اضافة إلى المناطق الزراعية التي أصبح يستخدم جزء كبير منها للسكن”.
واعتبر رمال أن “المشكلة في لبنان هي عدم التخطيط والرؤية، ومشكلة الحكومات التي لا تقوم بواجباتها، لأن أي مشروع من دون تخطيط يؤدي إلى الفشل. والمؤسف أنّنا لوثنا الموارد الطبيعية كالمياه، واذا لم تكن لدينا مياه فلا يمكننا أن نزرع، واذا لم تكن لدينا أرض صالحة وصناعة تحفظ هذه المزروعات وتحولها إلى صناعات تحويلية، فهناك مشكلة. كل هذه العوامل غير موجودة في لبنان، لذلك نحن أمام أزمة غذائية قد نعاني منها أكثر من أي دولة أخرى في العالم”.
وعن إنخفاض الاستيراد في لبنان في ظل الأزمات المتنوعة، أشار الى أنّ “الاستيراد في لبنان انخفض نتيجة التضخم الذي حدث، وانخفاض القدرة الشرائية للمواطن اللبناني، وتراجع الأعمال وفي الوقت نفسه نتيجة لارتفاع سعر الصرف. قبل العام 2018 كانت تقدر نسبة الأشخاص تحت خط الفقر بحدود 20 – 25%، اليوم أصبحنا نتكلم بأرقام خيالية بحدود الـ50 – 55%. الشعب اللبناني صار ما بين فقير وأقل فقراً وأشد فقراً، والطبقة المستمرة بالانفاق ليست لديها القدرة على خلق اقتصاد يغطي بدل 100%”.
وتابع: “لو انخفض الاستيراد نتيجة التصحيح في الميزان التجاري أو بسبب الانتاج المحلي لكان عاملاً ايجابياً، لكن الاستيراد خفّ نتيجة انعدام القدرة الشرائية للشعب اللبناني والانتاج المحلي كما هو حتى أنّه تراجع مثلما تراجع الاستيراد، وحجم الاقتصاد تراجع من 55 ملياراً الى حدود 20. ايجابية قلة الاستيراد الوحيدة أنّ خروج الدولارات خفّ عن الكميات التي كانت تخرج بها سابقاً”.
وبالنسبة الى تهديد الأمن الغذائي، رأى أن “الأمن الغذائي في المدى القريب والمنظور، غير مهدد لأن انسيابية استيراد السلع لا تزال موجودة والمنظمات الدولية لا تزال قادرة على تغطية جزء من الفراغ الذي عجزت الدول عنه. الدول الأخرى أثرت عليها كورونا والحرب الروسية – الأوكرانية، وخلاف ذلك لم يكن لديهم أزمة. هناك دول فقيرة لديها حالات مجاعة في الأصل، لكن تعميم المجاعة غير وارد حالياً لأن المصادر السلعية متنوعة في العالم. بالطبع، منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من الدول التي تمتلك مساحات شاسعة ويمكنها تأمين غذائها، لكن انعدام الرؤية لهذه الدول أدى إلى إفقار الشعوب. اليوم اذا كانت لدينا مشكلة الحرب، فهناك مصادر أخرى كالهند والصين والكثير من المصادر البديلة التي قد تكون أعلى تكلفة، لكن تبقى السلع موجودة وليست منعدمة”.