مع إحكام التكنولوجيا قبضتها على كل مفاصل الحياة، تعود تأثيراتها على الصحة العقلية والجسدية للإنسان، إلى الواجهة. موقع “تايمز أوف مالطا” (timesofmalta) الأوروبي سطّر في مقال للرأي مخاطر ثقافة الإشباع الفوري التي تحفّزها صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ليس فقط على مستوى الإنسان بل وعلى الصعيد البيئي أيضاً، بينما عرض موقع “ذا صن” (thesun) البريطاني لتجربة مدرسية تهدف لإنقاذ الطلاب ومساعدتهم على تخطي الإدمان على الهواتف الذكية.
تكنولوجيا غير صديقة للبيئة
البداية من مقال التايمز حيث ذكّر الكاتب بأنه في الوقت الذي تحمل فيه أوروبا راية القضايا البيئية والتغيّر المناخي، “تبقى التكنولوجيا الرقمية بعيدة كل البعد عن توصيفها بالصديقة للبيئة. لا بل وعلى العكس تماماً، تعادل بصمتها الكربونية تلك الخاصة بصناعة الطيران، كما أنها تخلق مشكلة كبيرة في إدارة الهدر والتخلص من المخلفات الإلكترونية. وبالتالي، من غير الطبيعي الربط بين الصفقة الخضراء للاتحاد الأوروبي والتكنولوجيا الرقمية، وإلا قد ينمّ عن جهل أساسي بالمشكلة. فالاحتباس الحراري على سبيل المثال، يحدث نتيجة للإفراط في استغلال الطبيعة في الصناعات، وصناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات غير الأخلاقية ليست أبداً بالاستثناء.
أدمغة كسولة
أما على صعيد الأفراد، لا تقلّ حدة المخاطر. ويشرح مايكل ريتش، الأستاذ المساعد في طب الأطفال في كلية الطب بجامعة هارفارد أن الدماغ البشري يبني باستمرار روابط عصبية بالتوازي مع التخلص من الروابط الأقل استخداما. لكن الوقت الذي يمضيه الفرد أمام الشاشة والمحتوى الذي يراه، لا يوفران أكثر من تحفيز “فقير” للدماغ النامي للأطفال مقارنة بالواقع (…) ويمتد التأثير ليشمل البالغين من جميع الأعمار والذين يفتقرون إلى الحصانة ضد آثار الاستخدام المفرط للتلفاز والهواتف الذكية والأجهزة الرقمية الأخرى والذين قد يعانون من ضعف التركيز وضعف الذاكرة والتحكم في الانفعالات بالإضافة إلى معالجة المعلومات بشكل أبطأ.
إجهاد العينين وجفافهما وتلف خلايا الشبكية وعدم الرؤية بوضوح من المشاكل الفيسيولوجية الأخرى والتي تفرض نفسها بقوة، كما يتسبب الانحناء المستمر بالتيبس والألم في كل من الرقبة والكتفين. كل ذلك، دون أن ننسى الحرمان من النوم بسبب تداخل الضوء الأزرق المنبعث من الشاشات الرقمية مع إنتاج هرمون النوم الميلاتونين. ولذلك، يعاني مستخدمو الأجهزة الرقمية ليلاً أو قبل النوم مباشرة من صعوبة في النوم ويعيق الاحتفاظ بالذاكرة.
حساسية أقل للعنف
استخدام الأجهزة الرقمية كنشاط منفرد يؤدي كذلك لإضعاف المهارات الاجتماعية لدى المستخدمين من جميع الأعمار. ويواجه الأطفال تحديداً خطر خسارة المهارات الاجتماعية المهمة التي يتعلمونها عادة أثناء التفاعل الشخصي مع أصدقائهم. كما يؤثر الوقت الطويل أمام الشاشات على القدرة على تسجيل المشاعر ومعالجتها. ومع التعرض باستمرار للمحتوى العنيف، تنخفض حساسية الفرد إزاء العنف وهذا أحد الآثار الجانبية المقلقة بشكل خاص (…) ويُظهر البحث العلمي أن التعرض لمحتوى وسائط عنيفة قد يزيد أيضاً من مستويات العدوانية، خصوصاً لدى الأطفال والمراهقين الصغار، ما يتسبب في بعض الأحيان بفقدان التعاطف. وقد يجادل البعض بأهمية المنتجات الرقمية وأهدافها التعليمية. ولكن مع ذلك، البرامج التعليمية على الوسائط الرقمية ليست مثالية للتعلم، إذ يتعلم الأطفال بشكل أفضل من خلال الاستكشاف والمشاركة في العالم الحقيقي.
تأثير سلبي مزدوج
ولا يخفى على أحد أن الأدوات الرقمية تتسبب بالإدمان، حيث تعمل النتائج الفورية لأي استخدام على تنشيط مركز المكافأة في الدماغ وتحفيز التوق للمزيد (…) والإشباع الفوري لحس المكافأة والرضا المرتبط مباشرة بافراز “الدوبامين” في الدماغ، من القضايا التي تحفز هذا الإدمان (…) والدوبامين هو أحد المواد الكيميائية التي “تشعرنا بالرضا” والتي لا نأنف نطلب المزيد منها (…) لدرجة يعيش معها المدمنون وهماً رقمياً بدلاً من العالم الحقيقي. لكن قضاء الكثير من الوقت في العالم الافتراضي يترك تأثيراً سلبياً مزدوجاً على احترام الذات ويساهم في إضاعة الوقت على حساب اكتشاف شغف المرء وصقله وخلق تجارب جديدة. وتزعزع هذه النواقص الشعور بالهوية الذاتية والثقة وسرعان ما تتفاقم هذه المشكلة مع حلول الصورة الذاتية الافتراضية للفرد مكان صورته الحقيقية.
ويترجم هذا الإدمان من خلال رفض الناس الابتعاد عن هواتفهم الذكية (…) وإغراقهم حتى لأطفالهم الصغار والرضع بالشاشات التي تفتنهم دون إدراك عواقب تأثير وسائل الإعلام والألعاب المفرطة على الإنترنت وعبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من الأنشطة، على صحتهم وحياتهم اليومية في المنزل والمدرسة.
محاولة إنقاذ
وفي هذا السياق، نشرت صحيفة “ذا صن” البريطانية مقالا يسرد محاولة لتخليص طلاب إحدى المدارس من الإدمان على الهواتف من خلال تجربة “إنقاذ” اقتضت بحظر الهواتف المحمولة في منطقة معينة من المدرسة. وكشفت مديرة ثانوية “شيريل بارهام” في المملكة المتحدة التي حظرت الهواتف المحمولة كيف غيرت هذه التجربة مدرستها وأنقذت الأطفال “الملتصقين” بهواتفهم على مدار الساعة. وأدت التجربة، بحسب المقال، إلى تحسين علامات التقييم وجعل الطلاب أكثر سعادة وخفض نسب التنمر. وهدفت هذه التجربة لدفع الطلاب للتحدث مع بعضهم البعض وتحسين قدرتهم على التواصل شفهياً وبالتالي تحسين العلاقات في ما بينهم. وعملاً بشروط التجربة، يغلق الطلاب هواتفهم في الأيام التي تسمح الظروف فيها بالعودة إلى مقاعد الدراسة، طوال فترة تواجدهم في الصف، ولا يستخدمون الهواتف في الفصول إلا عند الضرورة وللأغراض التعليمية حصراً كمشاهدة فيديو متعلق بالدرس”.