الحوار الوطني الفرنسي.. تعويم ماكرون أم حوار طرشان؟

26 يناير 2019
مطلع الأسبوع، انطلق في فرنسا “الحوار الوطني الكبير” الذي دعا إليه ايمانويل ماكرون والمخصص لأربعة محاور: السياسة المالية، والخدمات العامة، والديموقراطية والمواطنة، والسياسة البيئية.

من خلال الموقع الإلكتروني granddebat.fr يمكن لأي فرنسي أن يشارك في حلقات النقاش التي تدعو إليها المجالس المحلية أو الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، أو حتى أفراد عاديون. كما بإمكانه الإدلاء رأيه من خلال الإجابة عن الأسئلة المطروحة في الموقع، وذلك حتى منتصف آذار/مارس المقبل. وقد أكد ماكرون عزمه “تحويل الغضب إلى حلول” وعليه، من المفترض أن يعلن في نيسان/ابريل عن استراتيجية الحكومة بناءً على خلاصة هذا الحوار.

منذ انطلاقته، تهتم الصحافة الفرنسية بتغطية مسار هذا الحوار، فقد أجمعت الصحف على أنه أطلق دينامية جديدة في المجتمع الفرنسي، إذ أشارت جميعها إلى حماسة الفرنسيين للمشاركة فيه من دون تراجعهم عن دعم حركة السترات الصفراء. وأكثر ما أثار اهتمامها، هو معرفة المواضيع الأكثر تداولاً والتي يتفاعل معها الفرنسيون أكثر من غيرها. من خلال متابعة الموقع الالكتروني وعدد من حلقات النقاش، كان واضحاً أن السياسة المالية للحكومة استحوذت على الاهتمام الأكبر لما لها من أثر في الحياة اليومية للفرنسيين.
في هذا الصدد، سعت صحيفة Le Parisien إلى تسليط الضوء على مختلف الاقتراحات المتداولة، فاختارت في كل يوم أن تتوسع في تحليل وعرض إحداها واستشراف انعكاساته السلبية والإيجابية، إذا ما قررت الحكومة الأخذ به مثل زيادة الحد الأدنى للأجور، وطريقة احتساب رواتب التقاعد وإعادة فرض الضريبة على الثروات…

لكن إزاء حماسة الفرنسيين للمشاركة في هذا الحوار، تناولت صحيفة Le Figaro مسألة دقيقة، إذ شككت في الموضوعية والمهنيةالمطلوبة في طرح الأسئلة، وتساءلت عما إذا كانت قد صيغت بطريقة للتأثير في الأجوبة ودفعها في اتجاه يتناسب مع رؤية الحكومة.

الخطأ، المتعمد ربما، هو حصر الإجابات المتاحة، وعدم فسح المجال لتناول الموضوع من زوايا أخرى، كأهمية النمو الاقتصادي في خفض العجز، ومساهمته في زيادة قدرة الدولة على الوفاء بديونها، وكأن في الأمر محاولة لتوجيه للإجابات. وإذا ما افترضنا حسن النوايا، ففي الأمر تبسيط لواقع أكثر تعقيداً.

وبعيداً من مسار الحوار الذي ما زال في أسبوعه الأول، أولت الصحافة الفرنسية اهمية لمعرفة ما ستؤول إليه نتائجه: هل ستفضي هذه الورشة إلى نتائج ملموسة أم ستكون مجرد وسيلة لتنفيس احتقان الشارع؟ فأبدت فرنسواز فريسوز عبر صفحات Le Monde خشيتها من “حوار الطرشان”. وفي الصحيفة نفسها، اعتبر وليام تاي أن الأخذ بنتائج الحوار لن يكون كافياً ما لم يبادر ماكرون إلى “ثورة سياسية” تخلصه من القيود التي تحد من فعالية العمل الحكومي، لا سيما القيود الأوروبية.

وعبّر عدد من الصحافيين عن مخاوفهم من فشله لأسباب أخرى. فقد اعتبر روبير جول، عبر صحيفة Tribune ، أن اللجوء لهذا الحوار هو انعكاس لأزمة مؤسساتية تعرفها فرنسا مصنفاً إياه في خانة المخاطرة الماكرونية.

وأبدت صحيفة Le Parisien خشيتها أيضاً من فشل الحوار استناداً إلى تجربة مشابهة العام 2009. فقبل عشر سنوات، أطلق إيريك بوسون، وزير الهجرة والاندماج، حواراً حول الهوية والقيم الفرنسية المشتركة، إلا أن الإعلام في حينها ركز في تغطيته على التعليقات الاستفزازية ومحاولات التشويش ما ساهم في فشله. هذه الخشية ما زالت حاضرة، لا سيما أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت أكثر تأثيراً عما كانت عليه عام 2009 وهو ما يمكن تفسيره بمسؤولية وسائل الإعلام عن إنجاحه.

يبقى من الضروري وضع الأمور في السياق السياسي الراهن. فقد أتاح الحوار إعادة تموضع ماكرون والكف عن التدخل في كل شاردة وواردة، لصالح رسم السياسة العامة للبلاد، ما انعكس إيجاباً في شعبيته. إعادة التموضع هذه لن تقف عند حدود السياسة، فقد تداعى أنصار الرئيس الفرنسي إلى مظاهرة داعمة له، غداً الأحد، حتى لا يبقى الشارع مِلكاً لـ”السترات الصفر”.

لكن يبدو أن الكباش مع حركة “السترات الصفر” سيتعدى حدود الشارع بعدما أعلنت الحركة (أو جزء منها) عزمها خوض انتخابات البرلمان الأوروبي في أيار/مايو المقبل: مثلما يحاول ماكرون ترجمة غضب الشارع إلى حلول، تسعى الحركة إلى ترجمته في صناديق الاقتراع. لائحة قد تخلط الخريطة الانتخابية، بعدما أبدى كل من اليمين المتطرف وأقصى اليسار خشيتهم من تشتت الأصوات، الأمر الذي يصب في صالح اللائحة المدعومة من الرئيس الفرنسي.

إذاً، تعيش فرنسا حالياً حالة من الترقب: ترقب لما سيؤول إليه الحوار، وهل سيترجم عملانياً. وترقب لما سترسو عليه بورصة لوائح الأحزاب لانتخابات البرلمان الأوروبي، التي يصعب استشراف نتائجها منذ الآن. فلائحة “السترات الصفر” لن تحظى بالضرورة بإجماع ودعم كل أطياف الحركة المنقسمين أساساً حيال الاستجابة لمبادرات الحكومة: من الدعوة للاجتماع برئيس الوزراء في وقت سابق، وصولاً الى مبدأ المشاركة بالحوار الوطني من عدمه.