شعار “كلن يعني كلن” الذي ردده اللبنانيون منذ أيام الاحتجاجات خلال أزمة النفايات العام 2015 وكرسته ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، كعبارة تطالب برحيل الطبقة السياسية الفاسدة بكافة أطيافها معاً، يعرفها كل من في الوطن العربي تقريباً وتضرب بها بعض الصحف العالمية المثل عند الحديث عن ثورات الشعوب حول العالم.. لكن الشعار يأخذ شكلاً مغايراً لدى نظام الأسد في سوريا، الذي أعاد تدوير العبارة لتصبح “كلنا يعني كلنا” ضمن حملة جديدة لدعم الليرة السورية المنهارة أمام العملات العالمية.
وإن كان اللبنانيون ردووا عبارة “كلنا يعني كلنا” مؤخراً، كشعار يوحد كافة اللبنانيين ضد الـ”كلن”، أي عائلات السياسيين وأمراء الحرب الأهلية اللبنانية سيئة السمعة، فإن الشعار بمعناه الأسدي – البعثي، يساوي بين الـ”كلنا” والـ”كلن” بطريقة خبيثة تبرئ النظام والمسؤولين ورجال الأعمال المرتبطين بالسلطة، من أي مسؤولية، وتجعل انهيار سعر صرف الليرة، مسألة يتحملها السوريون أنفسهم، لأسباب عديدة تبدأ بعدم الحكمة الاقتصادية في الحياة اليومية، إلى نشرهم “الأخبار الكاذبة” (أي المعلومات الحقيقية عن سعر صرف الليرة، بدلاً من النشرات الصادرة عن المصرف المركزي التي تتجاهل أي تعديل في سعر الصرف خلال الأسابيع الأخيرة)، وانتهاء بالشراكة مع الجهات الأجنبية المتآمرة على “الدولة السورية”، عبر تهريب العملة والمضاربة بها عبر الحدود.
والحملة التي أطلقتها صفحات موالية للنظام السوري وشاركت فيها وكالات أنباء روسية وشاركها إعلاميون يعملون في وسائل الإعلام الرسمية، لا تشير بشكل صريح إلى مسؤولية السوريين عن انهيار الليرة، لكن يمكن تلمس ذلك من السياق العام للحملة. بداية من عدم وجود بيان موحد لها يوجه الاتهامات بشكل صريح لجهة محددة، باستثناء المؤامرة الصهيوأميركية بالتأكيد، وليس انتهاء بأن الحملة التي تصدر عن السلطة لا يمكن أن تتهم نفسها بأي حال من الأحوال، خصوصاً في دولة شمولية مثل سوريا الأسد، ويتأكد ذلك بالنظر للإعلام الرسمي منذ انهيار سعر الليرة واقترابه من ملامسة حاجز الألف ليرة للدولار الواحد في نهاية الأسبوع الماضي.
ولا يتوسع شعار “كلنا يعني كلنا” للحديث عن كون المواطنين السوريين ضحية جماعية تستوجب تحرك سلطات النظام لاتخاذ إجراءات ما، ولو كانت شكلية، للحد من انهيار الليرة، وتنتفي بذلك براءة الحملة بكونها حملة تتحدث عن وجع السوريين والمصاعب اليومية التي يواجهونها للبقاء على قيد الحياة تحت سلطات النظام، بل على العكس، يصبح الحديث عن ذلك الوجع تشويهاً لانتصارات النظام على الإرهاب، ولصورة “سوريا الحقيقية”، ويتم لوم السوريين على مشاركة تفاصيل حياتهم اليومية، معيشياً واقتصادياً، عبر مواقع التواصل، بدلاً من مساهمتهم بشكل بناء وإيجابي في “دعم الليرة السورية”، عبر تكذيب الشائعات وتفنيدها.
ويجب القول أن لوم السوريين على كل ما يحصل في سوريا من انهيار، على كافة المستويات، ليس جديداً، فإعلام النظام الرسمي وشبه الرسمي، اعتمد ذلك الطرح حتى في فترة ما قبل الثورة السورية العام 2011، بتعويم أفكار سامة مفادها أن الشعب السوري غير واع ويحتاج إلى القيادة الحكيمة التي توصله إلى بر الأمان، ما يستوجب الطاعة التامة، وتكرر ذلك بعد الثورة بكثافة، ويمكن تلمسه مثلاً في برامج مثل “قولاً واحداً” الذي قدمته قناة “سما” شبه الرسمية العام 2015، أو برنامج “منقدر” الذي تعرضه قناة “لنا” الموالية منذ مطلع العام الجاري وحتى في الدراما السورية في مسلسلات مثل “الندم” للكاتب حسن سامي يوسف والمخرج الليث حجو، العام 2016.
وليس من المفاجئ هنا، الحديث عن المشاكل المعيشية اليومية “في حال وجودها” على أنها مجرد قضايا وحالات فردية تستوجب الشفقة والمساعدة الإنسانية لا أكثر. فتحويل كل مشاكل البلاد إلى مسألة شخصية، بدلاً من كونها قضية عامة تشكل جزءاً من الأسلوب البعثي في حكم البلاد، والقائم منذ عقود على خنق السوريين اقتصادياً ومعيشياً وتعبيرياً لمنعهم من تحدي السلطات والمطالبة بحقوقهم الطبيعية، يعتبر نهجاً عاماً يعرفه السوريون منذ عقود.
أما الحل الذي تقدمه الحملة، فيتمثل في عدم الانجرار وراء عواطف التمرد والرضا بما هو موجود والسكوت عن كل القبح والظلم الموجود في البلاد، ويصبح الخطأ في الشعب لا في نظام الحكم وطريقة إدارته للبلاد، وبذلك تتم تبرئة النظام من أي مسؤولية، بداية بتكذيب وجود أزمة أصلاً، والقول أن كل ما يتداول عن أسعار الصرف عبر مواقع التواصل هي أسعار وهمية، وتسمية الصفحات التي يجب على “السوريين الشرفاء” مقاطعتها، ثم ثم لوم السوريين أنفسهم على حصول “انهيار طفيف” في سعر الصرف، بسبب لجوئهم منذ سنوات الحرب الأولى في البلاد إلى خيارات اقتصادية “غير حكيمة”.
تكرار الحديث عن عدم الانسياق وراء دعوات التمرد، والتي كرسها مدونون موالون للنظام صاحوا بأن السوريين لن يخرجوا للشوارع متظاهرين ولو وصل سعر صرف الدولار الواحد إلى 5000 ليرة سورية، تحيل إلى وجود خوف لدى النظام من ردّ فعل شعبي ضده، على غرار ما حصل في الدول المجاورة، العراق ولبنان، وخصوصاً إيران التي تعتبر من أكبر الداعمين للنظام السوري منذ العام 2011، والتي شهدت تظاهرات تقول وسائل إعلام عالمية ومنظمات حقوقية أنها كانت الأكبر منذ 40 عاماً، وقوبلت بعنف غير مسبوق أسفر عن مئات الضحايا وسط تعتيم شامل عبر قطع خدمات الإنترنت في البلاد، علماً أن ما يجمع الاحتجاجات في تلك البلدان هو الصعوبات المعيشية وتزايد فساد السلطات الحاكمة فيها، والتي ليس من المصادفة أن تكون جميعها مرتبطة بإيران سياسياً واقتصادياً.
ومن الملاحظ أن الحملة تتزامن مع حملة مشابهة تسوقها السلطة اللبنانية مؤخراً، بتحويل مسؤولية انهيار اللبنانية والأزمة الاقتصادية الحالية في لبنان، بعيداً من السلطة والمصارف، نحو اللاجئين السوريين ونحو النظام السوري أيضاً، بالقول أن السوريين الموجودين في لبنان يسرعون وقوع الانهيار الاقتصادي ويتسببون به، رغم أن السوريين واللبنانين في الواقع ضحايا يتشاركون الهم نفسه في هذا التوقيت، وهو ما أشارت له تغريدات ومنشورات لبنانية وسورية رداً على ذلك الخطاب غير الدقيق والأقرب للعنصرية أيضاً.