ما زال انهيار الليرة السورية ترك أثاره الاقتصادية والسياسية على مختلف مناحي الحياة، بعدما بات عدد السوريين تحت خط الفقر يُقدّر بأكثر من 90% من السكان. ويبدو العجز الحكومي ظاهراً عن معالجة تداعيات الإنهيار، رغم كثرة الإعلانات الرسمية عن مشاريع وقوانين وقرارات سرعان ما يتبين خلوها من أي محتوى إيجابي.
حاكم “مصرف سوريا المركزي” حازم قرفول، أصدر قراراً بخفّض عدد المواد المسموح بتمويلها من المصارف السورية بسعر الصرف الرسمي. وأبقت اللائحة، على السكر والرز والزيوت والسمن والشاي وحليب الأطفال الرضع والمتة، وبعض مسلتزمات الإنتاج الزراعي والحيواني.
ويُشير خفض عدد المواد إلى عجز خطير في ميزان المدفوعات التجارية السورية، وعدم قدرة “الدولة” على تأمين استيراد البضائع الرئيسية. إذ كان من الممكن استيراد البضائع الموجودة على اللائحة بشراء الدولار من المركزي بسعر الصرف الرسمي، في حين بات يتوجب على المستوردين اليوم شراء الدولار من السوق السوداء بسعر مضاعف. كما يؤشر القرار ضمنياً، إلى إمكانية وقف الدعم عن الرز والزيت والسكر، في مرحلة مقبلة، خاصة في ضوء الحديث عن ادراجها ضمن مخصصات “البطاقة الذكية”.
وكان المركزي قد أعلن في أيار 2019، عن لائحة تضم 41 مادة لها الأولوية في الاستيراد ويمكن تمويلها بالقطع الأجنبي بالسعر الرسمي للدولار وهو 434 ليرة سورية، ثم تمت إضافة مستلزمات الإنتاج الصناعي للائحة.
وكان رئيس مجلس الوزراء عماد خميس، قد أعلن عن وقف تمويل بعض المستوردات، بعد جملة من الإجراءات الاحترازية لضبط الأسواق مع هبوط سعر صرف الليرة. وأشار خميس إلى وقف تمويل المستوردات، باستثناء سبع مواد تتعلق بمستلزمات المواد الأساسية لذوي الدخل المحدود.
كما أصدر “مجلس الوزراء”، الأحد، قراراً بفرض “طوق جمركي” في محيط المدن السورية، وعلى مداخلها الرئيسية والفرعية، كخطوة لوقف عمليات التهريب، ضمن خطة تحرك جديدة لـ”المديرية العامة للجمارك”.
ويأتي ذلك ضمن خطة يعمل عليها النظام، لحرف الانتباه عن انهيار الليرة السورية، وتحريض الناس على التجار بوصفهم مُهربين ومتلاعبين بالأسعار. وساهم الحل الأمني، المتضمن ملاحقة الصيارفة، بخفض قيمة صرف الليرة مؤقتاً من 1000 مقابل الدولار إلى 750 ليرة. ولا يُعتقد أن جدوى هذا الحل ستستمر، لذا يحاول النظام توسيع نطاق العمليات الأمنية، عبر تكليف الجمارك بضبط “المُهربات” خارج المدن وقبل وصولها للأسواق.
وتتضمن الخطة، “فرض طوق جمركي من العيار الثقيل جداً على محيط المدن ومداخلها الرئيسية والفرعية”.
وبحسب المجلس، فإن المرحلة الأولى من الخطة تمت ترجمتها “من خلال قيام المديرية العامة للجمارك بنشر دورياتها على كامل محيط مدينة دمشق، في خطوة باتجاه ضبط المهربين قبل دخولهم إلى أسواق وأحياء المدينة”. وأشار مجلس الوزراء إلى أن “أهم ما يميز هذه التحرك (الخطة) هو رفع سقف صلاحيات المديرية العامة للجمارك”.
إلأ أن المريب في الموضوع، أن الطرق تتحكم بها مليشيات النظام، خاصة “الفرقة الرابعة” التي تتولى مسؤولية ترفيق البضائع، وبالتالي تسعيرها بعد فوترة “الضرائب عليها. إدخال الجمارك لوضع حواجز تفتيش على البضائع، يعني فعلياً زيادة فاتورة “الخوات” على البضائع، وبالتالي رفع أسعارها في السوق، وإمداد خزينة الدولة المتآكلة ببعض الموارد الصغيرة.
رفد خزينة الدولة بالمال، يكاد يكون الشغل الأوحد للنظام الذي فقد أي قدرة تعبوية له. إذ كشف وزير المالية مأمون حمدان، عن إعداد “الأسس التنفيذية والفنية لإصدار سندات الخزينة”، بعدما قرر مجلس الوزارء، “تمويل المشاريع الاستثمارية والتنموية الحكومية عن طريق طرح سندات وأذونات خزينة عامة بفائدة محددة”.
وقبل أسابيع، أكدت “سوق دمشق للأوراق المالية” أهمية طرح سندات وأذونات خزينة للاكتتاب العام، خصوصاً في المرحلة الراهنة، حيث يمكن خلالها التأثير في سعر صرف الدولار، معلنةً جهوزيتها فنياً لطرح هذه الأذونات والسندات للتداول.
إلا أن السؤال هنا يتركز على من سيشتري سندات وأذونات خزينة عامة تصدرها وزارة المالية السورية، التي تقول إنها “محدودة الآجال، وبفوائد محددة، ومخاطر صغيرة”؟. السندات ستكون بالليرة السورية، ما يعني أنها بالغة الخطورة في ظل الانهيار المتواصل وتذبذب سعر الصرف، لا على قيمة الفائدة “المحدودة” بل على قيمة السند الأصلية.
آثار الأزمة المالية للنظام، في ظل انكماش الأسواق وسط تضخم مالي غير مسبوق، بدأت تجد تعبيراتها السياسية. إذ بدأت “الحكومة السورية المؤقتة” المعارضة في الشمال السوري، خطوات لاستبدال الليرة السورية بالتركية في عمليات التداول بمناطق ريفي حلب الشمالي والشرقي.
وقال رئيس “الحكومة المؤقتة” عبدالرحمن مصطفى، في “فيس بوك”: “نسعى إلى ضخ الأوراق النقدية الصغيرة من فئة 5 و10 و20 ليرة تركية في أسواق المناطق المحررة خلال الفترة المقبلة”، وذلك “بغية الحفاظ على القوة الشرائية للأخوة المواطنين وحماية أموالهم وممتلكاتهم وتسهيل التعاملات اليومية”.
وعملية التداول بأي عملة تتطلب وجود الفئات النقدية الصغيرة، وهذا ما تحاول “المؤقتة” تدبيره. كما سيتم الإبقاء على التبادل بالليرة السورية والدولار. وكانت “نقابة الصاغة” في مدينة أعزاز شمالي حلب، قد أصدرت بياناً أعلنت فيه عن تسعير الذهب بالليرة التركية.