لا يبدو أن السوريين كانوا متحمسين كثيراً للدعوات الخجولة التي تناثرت في مواقع التواصل الاجتماعي، من أجل المشاركة في حملة التصفيق الجماعي للطواقم الطبية من شرفات المنازل، بالتزامن مع الحجر الصحي وحظر التجول المسائي في البلاد. وفيما يمكن تفسير ذلك الموقف الجماعي على نطاق سطحي بأنه رفض لاستنساخ المشهد الذي بات تقليداً تكرره الشعوب من إسبانيا وإيطاليا إلى لبنان، إلا أنه قد يحمل بُعداً آخر يتمثل في عدم وجود عرفان عام بالجميل تجاه النظام الطبي السوري أصلاً، بوصفه مؤسسة رسمية.
وأطلقت الحملة على ما يبدو، مجموعة من الأفراد المتحمسين لفكرة تشجيع الدولة السورية تأثراً بالمشهد العام وتحديداً في لبنان. وربما كان الدافع لذلك نوعاً من التفاني في إظهار المشاعر المنبثقة عن النزعة الوطنية “Nationalism” التي أعلى النظام السوري من شأنها في خطابه العام بعد العام 2011، وظهرت على مستوى السوشال ميديا في السابق بصورة مبادرات لدعم الرموز الوطنية مثل منتخب سوريا لكرة القدم أو الليرة السورية وغيرها، علماً أنه يمكن ملاحظة الدعوات للمشاركة في “أنستغرام” تحديداً حيث تم تخصيص حساب للحملة من دون أن يحظى بكثير من النجاح، كما أن الحملة لم تتوسع في “تويتر” و”فايسبوك” بمنشورات تتضمن صوراً ومقاطع فيديو، مساء الثلاثاء في أنحاء سوريا.
https://www.instagram.com/p/B-UkEFyKJHX/?utm_source=ig_embed
فبينما تنطلق الحملة من ضرورة الاعتراف بالجميل للطواقم الطبية بسبب جهدها الاستثنائي، فإنها تقترح ضمناً وجود ما يتطلب بذل ذلك الجهد بصورة تفشٍ مروع للمرض في البلاد، مثلما حصل في إيطاليا مثلاً. وبالعكس يتحدث الإعلام الرسمي طوال الوقت عن جاهزية المشافي والمراكز الطبية لأي حالات طارئة، لكنه يربط ذلك بـ”حقيقة” عدم تفشي المرض في البلاد أصلاً، ما ينفي بدوره الحاجة للحملة التي تصبح في هذا التوقيت إحراجاً للنظام يستوجب النقد من الصفحات الأكثر ارتباطاً بالأجهزة الأمنية والمخابراتية في البلاد، وعليه تم تسخيف الحملة ومهاجمة أصحابها بالقول أنها تقليد لـ”الغرب السفيه الفاجر” أو لـ”اللبنانيين المائعين”، لدرجة اقترح أحد المنتقدين أن التصفيق يجب أن يكون مخصصاً لرجال الجيش العربي السوري أو للشرطة التي تحفظ الأمن، فقط.
ورغم أن الممانعين وجوقة المطبلين للنظام السوري حول العالم، تتحدث باستمرار عن مجانية الطبابة في البلاد، ضمن المميزات التي وفرها نظام الأسد طوال عقود للسوريين “ناكري الجميل” بعد ثورتهم العام 2011، إلا أن السوريين يدركون نوعية الخدمات التي تقدمها المراكز الصحية في البلاد، وبالتحديد المشافي الحكومية التي تدار بعقلية أمنية وبعثية، وتفتقر لكثير من الأساسيات الطبية، لدرجة تأليف نكات وحكايا كثيرة، يمكن تلمسها في الأحاديث الشخصية وحتى في الدراما السورية الساخرة، ويصل ذلك حد القول، من دون مبالغة، أن الشخص يدخل إليها سليماً ويخرج منها مصاباً بعدة أمراض.
وإن كانت تلك النتيجة مخيفة في الأحوال العادية، فإنها تصبح كارثية في هذه الأيام التي تشهد تفشي وباء أوقف حركة الكوكب وشل الاقتصاد العالمي. ولا يعتبر ذلك تشاؤماً أو نوعاً من الشماتة، بقدر ما هو تحذير من خطر حقيقي. ففي تشرين الأول/أكتوبر الماضي، صدر مؤشر الأمن الصحي العالمي السنوي، وجاءت فيه سوريا في المرتبة 188 من أصل 195 دولة. وتم إعداد التصنيف لتحديد جاهزية الدول للتعامل مع تفشي الأمراض الخطيرة. وجاءت فيه دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا بين الدول الأكثر جاهزية للتعامل مع الأوبئة، ويمكن ملاحظة ماذا فعل فيروس كورونا المستجد فيها خلال شهر آذار/مارس الجاري، علماً أن الدول الأكثر تضرراً كالصين وإيطاليا وإسبانيا وإيران تقع في المستوى المتوسط للجاهزية.
وفيما يعزو الموالون للنظام السوري سبب التراجع في الجودة الطبية إلى الحرب الكونية التي أثرت على القطاع الصحي ودعوا إلى رفع العقوبات الأميركية والأوروبية عن النظام، إلا أن مشاكل النظام الصحي في سوريا تعود إلى ما قبل العام 2011. وبغض النظر عن هذه الجزئية، فإن مقدرة النظام الصحي في البلاد على معالجة أزمة فيروس كورونا، أو أي أزمة صحية أخرى في هذا التوقيت، تكاد تكون معدومة، وهو ما تؤكده التقارير ذات الصلة وبيانات منظمة الصحة العالمية. فمن ناحية المقدرة على كشف الحالات المرضية تتواجد سوريا في المرتبة 194 من اصل 195 على مؤشر الأمن الصحي العالمي، ويتعزز ذلك الرقم بضعف كفاءة المخابر الطبية أو انعدام وجودها، ومن ناحية منع انتشار الأوبئة وردة الفعل الرسمية تقبع البلاد في المرتبة 166 من أصل 195.
والاعتراف بذلك في الخطاب الرسمي، يعني إخضاع الجهاز الطبي السوري في البلاد مؤسسة من مؤسسات “الدولة السورية” للمساءلة من قبل الشعب الذي يتعايش أصلاً مع ضغوط خانقة في ملفات أخرى مثل الكهرباء وغلاء الأسعار وانعدام الخدمات الأساسية والظروف الاقتصادية الصعبة التي لم تتحسن رغم “الانتصار في الحرب الكونية”. وفيما دفعت تلك الملفات السوريين للاحتجاج في مواقع التواصل وحتى في شوارع محافظة السويداء مطلع العام الجاري، فإن إضافة ملف جديد إليها، يعتبر مراهنة يدرك النظام أنه لا يستطيع المغامرة بها.
ولهذا السبب اتبع النظام سياسة التعتيم والإنكار تجاه أزمة فيروس كورونا في البلاد، وهو السبب نفسه الذي يجعل حملة التصفيق نشاطاً غير وطني في هذه اللحظة. ومن المثير أن كل ذلك تزامن مع إشاعة إقالة وزير الصحة في حكومة النظام نزار يازجي وتعيين مدير مشفى المجتهد سامر خضر بدلاً منه، والتي انتشرت على نطاق واسع بعد اعتراف السلطات بتسجيل أول حالتي وفاة في البلاد بسبب المرض، ما استدعى رداً صارماً وتكذيباً حاد اللهجة من قبل أكبر الصفحات الموالية في مواقع التواصل، وافتتاحيات كتبت في الصحف الرسمية أيضاً.
في ضوء ذلك، يستمر النظام في لعبة المماطلة هذه، مستخدماً النمط المزدوج القائم على التعتيم حول المعلومات الحقيقية بشأن حالات المرض في البلاد من جهة، ونشر المعلومات الدعائية التي تصور الجهود الزائفة لمكافحة انتشار الفيروس من جهة ثانية، مع تجهيز سردية بديلة محكمة يلقي بها باللوم على السوريين أنفسهم في حال انتشار الوباء، ما يمكنه من التنصل من المسؤولية والإبقاء على شرعيته أمام الفئات الموالية له، وبلغ ذلك حد القول على الشاشات الرسمية أن سوريا هي الدولة الأولى على مستوى العالم في مجال الأمن الصحي، وأن دول الجوار استعانت بالنموذج السوري لمكافحة انتشار كورونا في بلادها.