رغم الفشل الواضح الذي أظهرته الديبكتاتورية الدينية الحاكمة في إيران، في التعامل مع فيروس كورونا المستجد، والذي حوّل البلاد إلى واحدة من أكثر الدول تضرراً بالجائحة العالمية، يظهر نظام الملالي حماسة منقطعة النظير عند الترويج لفكرة استحقاقه إعفاء فورياً من العقوبات المفروضة عليه كي يتمكن من مكافحة الفيروس بفاعلية.
وأشار وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى هذا التناقض في أواخر آذار/مارس الماضي عندما عرض شريطاً للرئيس حسن روحاني يقول فيه لمسؤولين وضعوا كمامات طبية، أن وزارة الخارجية الإيرانية أطلقت “جهوداً منسقة للتأثير على الرأي العام كي يقول لا للعقوبات”، وذلك بهدف “استعادة أموالنا المصادرة في دول أخرى”. ولاحظت وزارة الخارجية الأميركية أن النظام الإيراني يريد أموالاً نقدية، ولذلك رفض عروضاً لمساعدته طبياً من الولايات المتحدة ومن منظمات إنسانية مثل “أطباء بلا حدود”.
ويكشف هذا المشهد الدور الأساسي الذي تلعبه الدعاية في استراتيجية إيران للتخلص من حملة الضغوط الأقصى التي تمارسها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على طهران. فمنذ تأسيسه، قبل أربعة عقود، يوظف النظام الإيراني بشكل واسع في الآلة الدعائية سواء في الداخل أو في الخارج. وتعتبر الدول الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة، هي هدف الرسائل التي توجه من الوكالات الحكومية المختلفة ومن المؤسسات غير الحكومية الواقعة تحت سيطرة النظام. ويرى مراقبون أنه ينبغي على صانعي السياسة والمحللين في الولايات المتحدة الانتباه جيداً إلى محاولات النظام تشكيل الرأي العام الأوروبي والأميركي، تحت غطاء لاستفادة من الأزمات، حسبما نقلت إذاعة “راديو فاردا” المتخصصة في الشأن الإيراني.
وأشارت الإذاعة إلى أن المؤسسات التي تمارس عمليات الضغط، تركز كل منها على مهمة محددة، لكن هنالك دائماً تداخلاً في ما بينها. وفي مقدمة هذه المؤسسات وزارة الخارجية وإذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي تعتبر الذراع الإعلامية للحرس الثوري الإيراني، وعدد من المنظمات الدينية، بينها منظمة التنمية الإسلامية وجامعة المصطفى الدولية، ومكتب الدعاية الإسلامية في كلية قم.
والحال أن وزارة الخارجية، بما فيها قسم الدبلوماسية العامة، هي ركيزة الجهود التي تبذلها طهران للتأثير على الرأي العام الأميركي. واكتسب وزير الخارجية محمد جواد ظريف سمعة جيدة، وإن تكن مضللة، بوصفه دبلوماسياً عقلانياً يمتلك آراء جديرة بالنقاش مقارنة بفورات الغضب التي يطلقها المتشددون الدينيون الآخرون في النظام. وبعدما تلقى تعليمه في الولايات المتحدة، أمضى ظريف عقوداً أقام خلالها علاقات شخصية مع صحافيين وسياسيين ومدراء شركات في الولايات المتحدة، بهدف التأثير في الرأي العام الأميركي وسياسات واشنطن.
إلى ذلك، يلعب قسم الدبلوماسية العامة برئاسة سيد عباس موسوي، دوراً مهماً في حملة التضليل الإعلامي إلى جانب المسؤول عن قسم المغتربين الإيرانيين حسين جابر أنصاري. وتحاول هاتان الهيئتان التأثير على ملايين المغتربين الإيرانيين، الذين يقيم الجزء الأكبر منهم في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. ويجتمع مسؤولو النظام بانتظام مع المغتربين الإيرانيين في جميع أنحاء العالم، في اجتماعات موسعة ومختصرة، فيما أسس بعضهم، منظمات للترويج لتخفيف العقوبات واتباع نهج أكثر مصالحة تجاه إيران.
وهذه الأهداف المشتركة ليست أسباباً لاستنتاج أن هذه المنظمات تنسق إجراءاتها مع طهران، ولكن من الواضح أن النظام يولي قيمة كبيرة لجهودهم. وتخصص ميزانية العام 2020 – 2021 مبلغ 105 ملايين دولار لعمليات التأثير التي تستهدف الشتات الإيراني من المغتربين، وهو مبلغ يساوي ثلاثة أضعاف تمويل العام السابق. وتشير هذه الزيادة الملحوظة وسط ضغوط مالية شديدة على النظام إلى قيمة هذه الجهود وتوسعها.
في سياق متصل، تلعب إذاعة الجمهورية الإسلامية، بهيمنتها على هيئتي الإذاعة والتلفزيون، دوراً حاسماً في الداخل والخارج. ومن أجل تشكيل حوار في الخارج، تدير الإذاعة قنوات تلفزيونية بالإنجليزية “برس تي في” والإسبانية “هيسبان تي في”، ولغات أخرى أساسية. وظهر زعماء سياسيون مثل جيمي كوربين الزعيم السابق لحزب “العمال” البريطاني وبابلو إيغليسياس زعيم حزب “بوديميوس” الإسباني، على شبكة التلفزيون التابعة لإذاعة الجمهورية الإسلامية. ورغم الظروف الاقتصادية الصعبة، فإن هذه الهيئة ستحصل هذا العام على مليار دولار كموازنة بزيادة 448 مليون دولار عن العام الماضي.
وتسمح هذه الميزانية بتحويل 150 مليون يورو إضافية متاحة، ما يقرب من 165 مليون دولار، من صندوق التنمية الوطني الإيراني إلى قنوات المحطات الرسمية، كما يظهر أن هذه الأموال لا تشمل عائدات الإعلانات الكبيرة التي تحققها إذاعة الجمهورية الإسلامية بفضل احتكارها للبث، وهو مبلغ قد يكون بمئات الملايين، يصب في ميزانيتها الرسمية، ويخصص حوالي 16% للبث الأجنبي.
إلى ذلك، تمتلك ثلاث منظمات دينية رسمية دوراً مركزياً في بث الدعاية الرسمية خارج البلاد. فمنظمة التنمية الإسلامية، وجامعة المصطفى الدولية، ومكتب الدعاية الإسلامية في كلية قم، تعبر جهات رسمية تعمل على تدريب رجال الدين من المتطرفين في جميع أنحاء العالم، ونشر الدعاية الطائفية، وهو جهد متواصل ومركز في أميركا اللاتينية بشكل خاص، ويمكن رصده أيضاً حتى في الولايات المتحدة نفسها. وبسبب هذه الجهود بات هنالك رجال دين متعاطفون مع إيران كما هو الحال مع منظمات المغتربين، لكن لا توجد أدلة كافية للاستنتاج بأن هؤلاء ينسقون مع طهران بالضرورة.
وهنا، قامت جامعة المصطفى، بتدريب 50 ألف طالب من 122 دولة حتى الآن. وأحد المعلمين والمستشارين في جامعة المصطفى هو محسن رباني، الذي عمل لعقود كضابط استخبارات إيراني كبير في أميركا اللاتينية، وهو مطلوب لدوره في الهجوم الإرهابي العام 1994 في بيونس آيرس، الذي أودى بحياة 85 شخصاً. وقد أنشأ تلميذ رباني وخريج المصطفى، إدغاردو روبن سهيل الأسد، أكثر من 20 مركزاً دينياً طائفياً في أميركا اللاتينية. وتنسق الجامعة والمنظمة الإيرانية للتنمية جهودهما عن كثب في إرسال الدعاة إلى الخارج.
وبحسب السعر الرسمي للدولار، خصصت طهران لجامعة المصطفى 80 مليون دولار بين العامين 2020 و2021، وستتلقى منظمة التنمية الإسلامية 153 مليون دولار، بينما سيحصل مكتب الدعاية الإسلامية في كلية قم 36 مليون دولار، أي ما مجموعه 268 مليون دولار، بانخفاض طفيف عن 292 مليون دولار في السنة المالية السابقة. وقد عين المرشد الأعلى علي خامنئي شخصياً، علي عباسي مديراً لجامعة المصطفى، ومحمد قمي مديراً لمنظمة التنمية الإسلامية، كما يعين خامنئي أيضاً مجلس إدارة مكتب الدعاية الإسلامية، الذي يعين بدوره المدير حالياً أحمد فايزي.
ويمكن لخزانة الولايات المتحدة فرض عقوبات على هؤلاء الثلاثة بموجب شروط الأمر التنفيذي الصادر في حزيران/يونيو 2019 الذي يستهدف جميع الأفراد المعينين مباشرة من قبل المرشد الأعلى.
وهنالك منظمتان آخريان تلعبان دوراً في ممارسة التأثير في الخارج وهما وكالة “فارس نيوز” التي يسيطر عليها الحرس الثوري الإيراني، ووكالة “تسنيم”، وكلاهما تبرزان الشخصيات الغربية المعادية للولايات المتحدة باللغة الإنجليزية. وتنشر الوكالتان باستمرار مقابلات مع خبراء ومحللين غربيين يرددون دعاية طهران، كما تسافر الشخصيات الإعلامية المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني مثل نادر طالب زاده حول العالم وتدعو الضيوف إلى المؤتمرات في إيران لتوسيع شبكة نفوذ طهران وزملائها المسافرين.
وكانت وزارة الخزانة الأميركية، أشارت إلى دور طالب زاده، في تسهيل أصول التجنيد في فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، في بيان نشرته في شباط/فبراير 2019، في إشارة إلى الدرجة التي تعد بها وسائل الإعلام الإيرانية جزءاً من المؤسسة الأمنية.
والحال أن استعداد النظام الإيراني للإنفاق بهذا القدر المتشعب على الدعاية الخارجية والداخلية، يتناقض مع التوسلات برفع العقوبات المفروضة أساساً للحد من إجرام النظام الإيراني عبر التدخلات الإقليمية، ودعم الإرهاب. ورأت الإذاعة أن هذا التناقض يجب أن يدفع واشنطن إلى الكشف عن نشاط الحملات المضللة وإلى استخدام الأوامر الرئاسية والتنفيذية ذات الصلة لفرض عقوبات على الكيانات والأفراد الذين يقومون بمثل هذا النشاط الدعائي. وربما يكون استهداف رؤساء المنظمات التابعة للنظام الإيراني خطوة أولى يرحب بها عشرات الملايين من الإيرانيين.