وهم الصراع الروسي-الإيراني بسوريا:تقاسم مصالح لا أكثر

25 مايو 2020
وهم الصراع الروسي-الإيراني بسوريا:تقاسم مصالح لا أكثر
عقيل حسين
يتغير المشهد السوري وتتبدل مواقع الملفات ويطرأ ما هو مفاجئ وتختفي قضايا وتتوارى تفاصيل، لكن أمراً واحداً يبقى ثابتاً في ذهن الكثيرين، بل وتربط به كل الملفات مهما كانت متعارضة أو متباعدة: صراع النفوذ الروسي-الإيراني في سوريا.
هذا الصراع بالنسبة للمعارضة، ليس فقط نقطة ارتكاز كل تعقيدات الملف السوري، بل وأيضاً طريق حل القضية برمتها منذ أن تحولت موسكو من محامٍ سياسي عن النظام بالشراكة مع بكين، إلى حامية النظام عسكريا بعد عام 2015.
يمكن القول إن تفجر الخلاف بين رجل الأعمال السوري رامي مخلوف والنظام أعاد الروح للمعارضة اليائسة كما لم يحدث من قبل، وأحيا فيها الأمل بتصدع النظام وانهياره من الداخل، لكنها مع ذلك لم تحاول فهم طبيعة هذا الخلاف إلا من خلال زاوية الصراع الروسي-الإيراني، حتى بدا الأمر هزلياً في بعض الأحيان التي كان يوضع فيها مخلوف مع الطرف الروسي في الصباح، ثم تابع لإيران في المساء، الأمر الذي أكد التوظيف المتهافت من قبل طيف واسع من المعارضة لهذا “الصراع” بين حليفي النظام.
لا يمكن تجاوز حقيقة وجود صراع بين روسيا وإيران في سوريا، لكنه صراع تنافسي وليس عدائياً، على الأقل حتى الآن، يستهدف تقاسم الكعكة السورية وليس تهشيمها، وهو تنافس منضبط، كما أثبت الطرفان حتى الآن أيضاً، يعرف فيه كل منهما ميدانه ويراعي حساسيات ومصالح شريكه اللدود، على الرغم من محاولات الكثيرين تصوير هذا التنافس على أنه حرب ملتهبة لن تلبث ناره أن تخرج من تحت الرماد.
تعتمد نظرية التنافس الروسي الإيراني في سوريا على مجموعة أفكار ومعطيات شكلت حتى الآن مؤشرات لاثباته:
الأولى، تنافس الطرفان على تأسيس ميليشيات واستتباع قوى وجماعات محلية، يقوم كل منها على نقيض الآخر، فإيران تبني أذرعها على أساس عقائدي كما هو معروف، بينما تستقطب روسيا الكتل المؤيدة للنظام لكنها تحمل حساسيات من مشروع التشيع الإيراني، وقد اشتبكت هذه الميليشيات في مناسبات كثيرة نسبت في كل مرة للصراع بين الدولتين، لكنها نادراً ما كانت كذلك بالفعل.
المؤشر الثاني الذي لا يمكن تجاهله بهذا الصدد، هو تفرد كل طرف بمناطق مصالحات وتسويات فرض فيها هيمنته، وأصبحت شبه محرمة على الطرف الآخر، مثل درعا التي يحظر فيها على إيران إدخال أي من ميليشياتها إلى المناطق الخاضعة لاتفاق التسوية الموقع بضمانة الروس، وكذلك مدن وبلدات ريف حمص الشمالي، بينما ظلت مناطق شرق الفرات، الخاضعة لسيطرة النظام، منطقة نفوذ إيراني خالص.
ويمكن أن نضع في هذا السياق الخلاف في الموقف من اتفاق وقف اطلاق النار في إدلب، الموقع بين روسيا وتركيا مؤخراً، والذي أوقف تطلعات إيران للمضي في المعركة شمال غرب البلاد حتى النهاية.
مؤشرات أخرى يمكن الحديث عنها لتأكيد عدم الانسجام الكامل بين حليفي الأسد في سوريا، إلا أن الملف الاقتصادي يظل أبرز محددات هذا التنافس وأهم الأدلة عليه، سواء ما يتعلق بالسباق المحموم بينهما على الاستئثار بالثروات الباطنية، كالنفط والغاز والفوسفات وغيرها، أو باستثمار المرافق الحيوية للبلاد، كالموانئ والمطارات والمناطق الحرة..الخ، إذ لم يخفِ الطرفان نهمهما في الملف الاقتصادي وتنافسهما عليه أيضاً.
لكن كل ما سبق لا يقدم أي إشارة يمكن الاعتداد بها عن صراع جدي بين موسكو وطهران في سوريا. وعلى العكس، يبدو واضحاً أن الطرفين يقدران جيداً مصالح بعضهما في هذا البلد، بل وأكثر من ذلك، يدرك الجانبان مدى حاجة كل منهما للآخر وبما يتعدى الملف السوري اقليمياً ودولياً.
الروس لا يخفون تلذذهم ب”البازار” الذي ما زالت الولايات المتحدة تشرع أبوابه أمامهم لإغرائهم من أجل تحجيم الحضور الإيراني في سوريا، وهم يتلقون في كل يوم الرسائل المحفزة لهم من أجل القيام بذلك، لكن ما حدث هو أن الجيش الروسي فتح أبواب قاعدته الرئيسية في حميميم أمام الطيران الإيراني مرتين على الأقل خلال شهر أيار/مايو، بينما تخلت إيران عن تحفظها شرق الفرات، حيث وصل الروس إلى مطار دير الزور، وتجاوزوا حدود مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية التي دخلوها نهاية العام الماضي مع عملية “نبع السلام” التركية شمال شرق سوريا، واضعين قدماً في مناطق انتشار الميليشيات التابعة لإيران للمرة الأولى هذا العام، بل ولم تعترض طهران على مساعي موسكو تأسيس ميليشيات تابعة لها هناك.
كما أن النظام يبلي بلاءً حسناً في إرضاء الطرفين، على مبدأ عقد بعقد، واستثمار باستثمار، وحقل بحقل وميناء بميناء.. مرة لروسيا ومرة لإيران. هذا على الصعيد الاقتصادي، أما عسكرياً وأمنياً، فقد منح النظام ميليشيات كل طرف استقلالية كبيرة، إذ لا سلطة محلية تقود أو تحاسب أو تسائل المرتزقة الروس أو المقاتلين الشيعة من غير السوريين، بينما لا يمارس سوى سلطة رمزية على الميليشيات المحلية التابعة لكلا الدولتين، ويمنحها امتيازات متساوية بما يكفي.
وعلى الأرض، عسكرياً أيضاً، ما تزال حاجة كل منهما إلى الآخر قائمة، إذ ثبت في جميع المعارك التي خاضها هذا التحالف ضد قوات المعارضة عدم فاعلية أي منهما بمعزل عن الآخر، فالقوة الروسية لا تزال محصورة في الجو، ومن دون الطيران الروسي فشلت الميليشيات الإيرانية، وجيش النظام بطبيعة الحال، في تحقيق أي نتائج إيجابية. وفي الوقت نفسه، لا يمكن لسلاح الجو مهما بلغ تفوقه أن يحسم أي صراع، وهذا ما ثبت أيضاً في الحرب السورية، إذ في كل مرة كانت الميليشيات الإيرانية تحجم عن المشاركة في القتال، يخفق الروس في تحقيق أي تقدم، كما حصل مثلاً في معارك ريف حماة العام الماضي.
المعادلة نفسها يمكن، أو يجب التفكير بها، عند محاولة الإجابة عن السؤال الاحتمالي: هل يمكن للروس أن يجبروا إيران على الخروج من سوريا إذا ما كانت الاغراءات الأميركية المتتالية مرضية بالنسبة لهم؟
ومهما كانت درجة الهيمنة التي باتت تمتلكها موسكو على النظام في دمشق، إلا أنها لن تكون كافية لإجبار الإيرانيين على مغادرة سوريا، طالما أن الفاعلية العسكرية الحقيقية على الأرض هي بيد طهران، ليس من الناحية النوعية وحسب، بل وأيضاً من حيث الكم، إذ تتحدث الأرقام عن وجود مئة ألف مقاتل شيعي أو متشيع تابعين لإيران في سوريا حالياً، وسواء كان هذا الرقم مبالغاً فيه أم لا، فإنه لا يعني سوى أمر واحد في النهاية، وهو أن الروس لن يكون أمامهم وقتها إلا شن حرب جوية ضد هذه الميليشيات، وهو أمر ليس مستبعداً وحسب، بل ولا يمكن التفكير به إلا في مخيلة القسم الحالم من المعارضة.
ما سبق لا يبقي سوى سيناريو وحيد يجعل من مغادرة إيران لسوريا أمراً محتملاً، وهو أن يجد جميع الأطراف أنفسهم أمام حائط مسدود بالفعل، كما صرح بذلك المبعوث الأميركي إلى سوريا جيمس جيفري مؤخراً، خاصة بعد أن يوضع قانون العقوبات الأميركي المشدد، المعروف باسم قانون “قيصر”، موضع التنفيذ، والذي سيجعل من عملية إعادة الإعمار وتدفق الأموال إلى سوريا مستحيلة، الأمر الذي يقلق الروس بوضوح، ويضعهم أمام استثمار خاسر بكل المقاييس، ومعهم الإيرانيون.
يمكن لهذا السيناريو الاحتمالي أن يقود روسيا وإيران إلى طاولة تفاوض جديدة بينهما حول الملف السوري، ستكون محدداته وقتها أن تقنع موسكو حليفتها طهران بإخراج قواتها من سوريا مع ضمانات بحفظ مصالحها، ومنحها مكاسب في ملفات أخرى، ويمكن لإيران حينها أن تعتمد على ما ستخلفه من ميليشيات محلية شيعية في الاطمئنان على هذه المصالح، عملاً بتجربتها الناجحة في العراق ولبنان.