منذ أن سمعت بقصص التحرش صرت أخاف أن أنزل إلى سوق الحميدية”، يضحك غطفان، ويكمل: “حقيقة، رغم أنّ الأمر مضحك للغاية، بعدما صدعت الفيمنيستات رؤوسنا بحقوق النساء، وطبعاً هذه الحقوق على العين والرأس، ولكن أن نصير نحن اليوم الضحية، يا باطل”.
يعتقد غطفان، وهو طالب جامعي، أنّ الأمر مركب بقدر ما هو بسيط. فموضوع تحرش النساء بالرجال وابتزازهم جديّ للغاية، ولكنه يسأل عن الأسباب: “تعال لنشرح الموقف بهدوء، هل وجدت الفتيات المعنيات مالاً وطعاماً ومسكناً ومشرباً وعملاً محترماً، ثم أخذن أسلوب التحرش بالرجال وسيلة لكسب المال؟ لننظر الى أبعد من ذلك، أنا أتوقع أننا قريباً سنأكل لحم بعضنا بعضاً، فعلى سيرة اللحم مثلاً، والله نحن منذ نحو ثلاثة أشهر لم نذقه في منزلنا، وتريدهن ألا يتحرشن بنا ما دام الأمر يكسبهن بعض المال؟”.
كان هذا الحديث مع غطفان على خلفية ما بات يصل إلى أقسام الشرطة، من قضايا تتعلق بنساء يتحرشن بالرجال بأساليب متعددة، يهدف جلّها إلى اتهام الشاب أخيراً بالتحرش لتنقلب الحقائق رأساً على عقب، ويصير الرجل هو المتهم والذي سيدفع أي مبلغ معقول من المال لتحل القصة، وألا تصل إلى المحاكم، وسيكون من الأفضل ألا تصل إلى الشرطة من الأساس.
البقاء للأقوىفي سوريا قاعدة معروفة تنص على أن الفتاة دائماً على حق، ويكفي أن تدّعي في أي قسم للشرطة على أي شاب بتهمة التحرش “فتشحطه”، كما يقال في اللهجة المحكية. وبالحديث عن مصطلح “الشحط”، فقد تمادى وتضخّم وأخذ أكبر من حجمه إبان الحرب، “فالشحط” على مستويين، الأول قانوني غير إنساني، والآخر يستند إلى قاعدتين، الأولى هي “البقاء للأقوى”، والثانية هي التندر الذي هو واقع لا ريب فيه، ويأتي على شكل “هل تعلم مع من تتحدث؟”، وكان الله بعون السوري الذي بات لا يعرف مع من يتحدث فعلاً، يسأل سائل: “ألا يكفي السوري أنه يتحدث مع نفسه في الطرق؟”.
الرّجل الضحيّةيبدو أنّ تحرش النساء بالرجال بدأ يأخذ طابع المهنة. المهنة التي يقابلها مال أو لباس أو غيره، مقابل ألا تدعي الفتاة على الشاب بالتحرش بها، علماً أن المتحرش هي الفتاة، وليس في الطريق وحسب، بل وصل الأمر إلى داخل محال الباعة.
بطلتا آخر قصة مسجلة، هما أم وابنتها ذات الثمانية عشر عاماً، إذ ادعت الوالدة في قسم الشرطة القريب من سوق الحميدية بتعرض ابنتها للتحرش على يد شاب يعمل في محل لبيع الألبسة، ومقابل تنازلها عن الشكوى طلبت مبلغاً مالياً من الشاب، ومن ثم أسقطت حقها مدعيةً أنّ هذا المبلغ هو ثمن “شرفية البنت”، لتتم الصلحة بين الطرفين. هذا ما يمكن القول عنه بالضبط إنّه تَبَلٍ، فالشاب الفقير الذي يعمل أجيراً دفع “شرفية” قد تعادل راتبه لأشهر، وفوق ذلك وسم بالمتحرش، أقلّه لمن لم يعرف الحقيقة.
أمر مشابه حصل حين ادعت فتاة على صاحب محل صاغة بالتحرش، ليتبين أنّ الفتاة صاحبة أسبقيات جرمية بالدعارة والنصب والاحتيال، فيما استندت الشرطة إلى شهادات الجيران أيضاً، وإلى أنّ هذه الفتاة كانت تتردد إلى المحل في غياب صاحبه للقاء الشاب الذي يعمل لديه، وحين فشلت بالنصب عليه، ادعت على مديره بالتحرش.
أما الحالة الأجرأ فهي لفتاة تدخل المحال التجارية في أكثر من سوق، وفور دخولها تبدأ بالصراخ مدعيةً أنّ صاحب المحل حاول التحرش بها، لتتقاضى مبلغاً مالياً بسيطاً من صاحب المحل الذي يريد درء الفضيحة المفتعلة والمحافظة على سمعة محله، وقصة كهذه وما سبقها باتت مسجلةً في دفاتر الشرطة.
إيليا اسم مستعار لشاب وقع ضحية ادعاء كاذب، نجم عنه سجنه شهراً كاملاً، حتى تمكن من الحصول على براءته، بعدما وقعت الفتاة المبتزة في شرك حاولت نصبه لصاحب محل لبيع التحف، ولكن ما جهلته أن المحل كان يحتوي على كاميرات تسجيل.
الفتاة الضحيّةلطالما عرف عن الأسواق المزدحمة في دمشق وغيرها كثرة حالات السرقة والنشل، ولا يخلو الأمر من تحرش جسدي بسيط بين الوقت والآخر، ولكن غالباً كانت تتجاوز الفتاة الأمر كونه لم يتعد لمسة في الزحام، ليس مساومة على الشرف، بقدر ما هو عائد لأسباب أخرى تشرحها الخياطة منى بيرو لـ”النهار العربي”: “بحكم عملي أحتاج الكثير من الخيطان والمعدات من سوق الحميدية وجواره، إذا قلت إنني تعرضت للمس أكثر من مرة، فهل سيؤخذ الأمر عليّ ويقال إنني بلا شرف؟ نعم هذه معايير مجتمعنا، ولكن لديّ أسبابي، الأمر تم في لحظة، لم يتعد كونه لمسة عابرة. حسناً، لو وقفت وصرخت وجمعت السوق على المتحرش، فماذا أكون قد فعلت سوى أنني فضحت نفسي، أو بمعنى آخر أكون قد صنعت (فضيحة بجلاجل)، بالنهاية هو لم يغتصبني، ولم يستهدفني لكوني أنا، بل هو مجرد مكبوت تافه مريض مكانه في أي غابة ولكن ليس بين البشر”.
تغضب هيفاء للغاية حين سؤالها عن الأمر، فالرسامة الثلاثينية تمتلك ذكرى سيئة في سوق الحميدية، تقول لـ”النهار العربي”: “كنت أسير وصديقتي في السوق، حقيقة كانت زيارتنا بقصد التسلية وتمضية الوقت، وكان الزحام شديداً للغاية، فجأة شعرت بيد تتلمسني، خفت كثيراً، للحظة شعرت أن قلبي سيتوقف، التفتّ مسرعة لأجد شاباً أسمر يكاد يلتصق بي مستغلاً الزحام الكبير، لا أعرف كيف انهمرت الدمعة من عيني وصفعته بيدي وبدأت أصرخ فجمعت السوق كلّه عليه، حتى جاءت الشرطة وادعيت عليه وحبسته”، هيفاء ليست نادمة.
بين شاب تعرض للتحرش وفتاة كذلك، يبقى أنّ أفضل المتفائلين يعرف أنّ المجتمع السوري يحتاج عشرات السنين للتعافي، وأنّ ما يحصل كان متوقعاً، ومن المتوقع أيضاً حصول الأسوأ، ولعلّ كل ما حصل وسيحصل يمكن اختصاره بالتذكير بمشاهد الطوابير على أبواب الهجرة والجوازات.