عقب ليال حالكات لم يضيئها سوى صواريخ وقذائف القوات الغازية الروسية، بدأت الروح تعود للحياة الليلية في أرجاء العاصمة الأوكرانية.
وشهدت كييف خلال شهر الماضي حفلا غنائيا وموسيقيا ضخما حضر لفيف كبير من المراهقين والشبان والفتيات، وكان المهرجات على وشك الإلغاء بسبب استهدف قوات الكرملين لمركز تجاري نجم عنه سقوط العديد من الضحايا والمصابين، ولكن أحد المنظمين ويدعى دميترو فاسيلكوف قال إنهم رفضوا ذلك، موضحا “هذا بالضبط ما يريده الروس”.
وقال في تقرير خاص نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”، إن التخطيط لهذا الحفل الكبير والأعداد له أخذ منهم أسابيع طوال، وبالتالي لم يكن هنا مناص من المضي في ذلك الأمر قدما، فعمدوا إلى نصب المسرح الخشبي وتجهيز مكبرات الصوت وتوفير حراس الأمن لضمان سلامة الجمهور.
وبدا الإعداد للحفل كأنه استعداد لحرب من نوع خاص، فهناك “غرفة عمليات” تواجد فيها شبان وفتيات يرتدون قمصان سوداء يعملون بحماس كأنهم خلية نحل نشطة، ليلقوا بعد ذلك نتائج جهودهم المضنية فرحا وحبورا على وجوه الجماهير التي توافدت للرقص والاستمتاع بأجواء ليلية صيفية وكأن البلاد لم تشهد أي غزو قط.
وقال أحد المغردين الذين حضروا الحفل وهو شاب يعيش مع جدته ولم يخرج إلى الشارع منذ أمد طويل، “هذا هو العلاج، ويجب أن نعرف كيف نستخدمه”، في إشارة إلى شباب أجبرته ظروف الجائحة ومن ثم الحرب لاحقا على التزام منازلهم ليلا من دون أي استمتاع بالحياة الليلية الصاخبة التي تشتهر بها كييف.
مع ابتعاد الخطر بشكل نسبي عن العاصمة، بدأ الناس يخرجون ليلا إلى المقاهي والبارات للتفريج عن النفس والخروج من حالة الاكتئاب والقلق، وإن كان البعض يساوره شعور بالذنب، إذ يقول النادل بوهدان شيركا “كان بالنسبة لي السؤال الكبير يتمحور فيما إذا كان يجب على العمل في الملهى وسكب الكحول للزبائن؟”.
وتابع “ولكني عندما رأيت الفرح والأمل في عيون مرتادي الملهى لم أعد ألقى باللوم نفسي، بل اعتبر ما نفعله بمثابة علاج نفسي للكثير من الناس في هذه الأوقات الصعبة”.
ومع استمرار تدفق الناس على الشوارع ليلا لاسيما فئة الشباب، لم يعد من الصعب العثور على حفلات “هيب هوب” في عطل نهاية الأسبوع تنطلق أنغامها من النوادي والمطاعم المتناثرة على ضفاف نهر دنيبرو الذي يمر عبر العاصمة كييف، وبالتالي بات بالإمكان رؤية المئات من الناس يتواجدون في تلك الأماكن وهم يرقصون أو يتجاذبون أطراف الحديث مستمتعين بعجائب المناخ الشمالي في خضم ليلة صيفية.
ولكن مع ذلك وعند حلول الساعة الحادية عشر ليلا يجب أن تكون الشوارع خالية من الناس جراء فرض حظر التجول، ولذلك يبدأ الناس سهرتهم مبكرا عند الساعة التاسعة أو ما قبلها ليقضوا ساعتين أو أكثر في تلك الأجواء الفنية والاجتماعية، وبعدها عليهم أن يعودوا إلى منازلهم بينما يسمح للعمال في أماكن السهر بالتأخر في العودة باعتبار أنه بحاجة إلى تنظيف وتوضيب المحال التي يعملون بها قبل إغلاقها.
وبالعودة إلى الحفل الكبير الذي أقيم في الشهر الماضي، فيقول المنظمون أنهم أطلقوه مبكرا عند الساعة الثانية والنصف ظهرا ليستمر حتى موعد حظر التجول، مشيرين إلى الأرباح سوف تذهب للمجهود الحربي والمساعدات الإنسانية للفقراء والمحتاجين والمرضى.
من جانب آخر، فإن الحديث الحرب يخيم على كثير من نقاشات رواد الملاهي كما يقول شيركا الذي يعمل أيضا معالجا نفسيا، إذ تحول ذات مرة حديثه مع شابة صغيرة عن الهوايات والترفيه وقراءة الكتب إلى الكلام عن الغزو الروسي وكيف أنه أخبر تلك الفتاة أنه قرر أن يبيع مجموعة كبيرة من الكتب المخطوطة باللغة الروسية لأنه لم يعد يرغب في القراءة بتلك اللغة مرة أخرى، مضيفا “هذه هي الحرب الخاصة بي”.
وأوضح أنه شعر أن نفسية المدينة بأكملها قد تغيرت، قائلا “كييف مختلفة الآن. لناس أكثر أدبًا وأكثر صداقة ولا يغالون في شرب الكحول”.