عماد الشدياق نقلاً عن “عربي بوست”
نحو 2500 شخص حضروا المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) في سويسرا، منتصف الشهر الماضي، الذي حمل عنوان “التعاون في عالم منقسم”، وتحدَّث عن المخاطر التي تُهدد العالم في السنتين المقبلتين، وتنبّأ بأنّها ستؤرّق الاقتصاد العالمي.
ذاك المؤتمر كان يُنظر إليه في الماضي القريب على أنّه “الكرة السحرية”، التي تخبرك بما يدور فيها من مستقبل النقاشات والأفكار حول العالم، وأُفق تشجيع الأعمال والسياسات العلمية، في محاولة لرسم الأجندات العالمية والإقليمية والاقتصادية، كما تتنبّأ بمسار العولمة وتحولاتها والاعتراضات عليها، ولهذه الأسباب كان المنتدى يستقطب أغلب زعماء العالم والمفكرين والمنظّرين، في مجالات العولمة والاقتصاد الحرّ والسياسة والتكنولوجيا.
لكنّ النقاشات التي حصلت في النسخة الأخيرة من المنتدى، منتصف الشهر الماضي، كانت مختلفة عن كلّ المرات، لأنّها عُقدت للمرة الأولى بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا. النقاشات كشفت حجم الضعف الذي أصاب ذاك المنتدى، وأظهرت حجم التخبّط لدى صانعي القرار في الدول الغربية، الذي عرَّى السياسات الغربية في نظرتها إلى الاقتصاد العالمي والتحولات الطارئة نتيجة الحرب… لدرجة أنّ بعض المسؤولين الرسميين لجأوا إلى تحوير الحقائق ورسم “صوَر شبه وردية” عن تماسك الغرب في الحرب ضد روسيا، ما فُسر على أنّه “كذب على الذات”، من أجل التستّر على إخفاقات الأمريكيين والأوروبيين في السياسة والاقتصاد.
خلال افتتاح المنتدى مثلاً، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أنّ دول الاتحاد خفّضت الطلب على الطاقة الروسية بأكثر من 20%، خلال الفترة بين أغسطس ونوفمبر الماضي، معتبرة أنّ رد فعل أوروبا على الحرب في أوكرانيا هو “أحدث مثال على كيفية تكاتف الاتحاد الأوروبي، عندما يكون الأمر في غاية الأهمية”.
بتكلفة سياسية ضخمة.. دول الاتحاد الأوروبي تتفرّق بحثاً عن بديل للغاز الروسي – تويتر
لكن ما أدلت به رئيسة المفوضية يتناقض حقيقةً مع البيانات الروسية، وكذلك مع تلك الأوروبية والأمريكية؛ إذ تكشف بيانات توريد الغاز من روسيا إلى أوروبا، وفق شركتي “نوفا تك” و”غاز بروم” الروسيتين، أنّ التوريد نَمَا خلال العام الفائت، بأكثر من 25% مقارنةً بفترة ما قبل الحرب الأوكرانية والعقوبات، وهذا يعني أنّ دول أوروبا لم تستغنِ عن إمدادات روسيا من الغاز، لكنّها أوجدت أساليب مختلفة من أجل الحصول عليها (وعلى النفط أيضاً) عبر أطراف ثالثة.
حتى معلومات وحدة المراقبة في الاتحاد الأوروبي (يوروستات)، تكشف أنّ التبادل التجاري بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي ارتفعت بين شهر فبراير وأغسطس الماضيين بشكل كبير، رغم العقوبات، وهو ما يدحض الادعاءات الأوروبية.
فقد ازداد حجم التجارة الثنائية بين روسيا ودول الاتحاد فعلياً خلال تلك الفترة، وبلغ 171.4 مليار يورو، وهذا ما تؤكده الأرقام. وبينما انخفضت صادرات الاتحاد الأوروبي إلى روسيا بنسبة 33% خلال الأشهر السبعة من عام 2022، لتصل إلى 34.1 مليار يورو فقط، ارتفعت واردات الاتحاد الأوروبي من روسيا بنسبة 69.9% لتصل إلى 137.3 مليار يورو.
وهذا يعني أن شركات الاتحاد الأوروبي هي التي تعاني من خسائر في سوق التصدير، كما أن الأضرار الجسيمة التي لحقت بتلك الشركات كانت ناتجة، خصوصاً، عن الزيادة بتكاليف الإنتاج بسبب زيادة أسعار الوقود؛ إذ تشير تقديرات صحيفة “دير شبيغل” الألمانية، إلى أنّ نحو 15 ألف شركة ألمانية ربّما تواجه الإفلاس.
وفي ألمانيا أيضاً، بدأ بعض المواطنين الألمان بالاستعداد لانقطاع التيار الكهربائي المقنّن بسبب نقص الوقود، حيث لجأ بعض السكان إلى قطع الأشجار في حديقة Tiergarten المركزية وسط برلين.
أمّا فرنسا، فشهدت هي الأخرى شُحاً في مادة البنزين، التي انقطعت من محطات الوقود قبل أشهر.
حصل هذا نتيجة الضغوط والعقوبات التي زادتها الدول الغربية على موسكو، وأدت إلى زيادة أسعار الكهرباء وموارد الطاقة والمنتجات الغذائية، كما أدت أيضاً إلى زيادة منسوب الاحتجاج في أوروبا على الارتفاع غير المنضبط في أسعار المواد الغذائية، والسلع الأساسية والإسكان والخدمات المجتمعية.
ولعل ما قالته فون دير لاين كان سبباً دَفَع بوزير الطاقة القطرية، ورئيس شركة “قطر للطاقة” سعد شريدة الكعبي، للقول في المنتدى نفسه، إنّ الاتحاد الأوروبي “لن يكون قادراً على التخلي تماماً عن الغاز الروسي”. وإنّه حتى عام 2027، يُتوقع أن يعاني العالم من نقص في الغاز، مؤكداً للقادة الأوروبيين أنّه “لا بدّ من تعلّم الدرس من الوضع الحالي”.
وقال الكعبي: “لحسن الحظ لم يكن لديهم (الأوروبيون) طلب مرتفع على الغاز بسبب الطقس الدافئ، لكن المشكلة هي: ما الذي سيحدث عندما يرغبون في تجديد مخزونات دولهم العام المقبل؟”، مشيراً إلى عدم تدفق الكثير من الغاز إلى السوق حتى 2025، متوقعاً أن يظل الوضع “متقلباً” لبعض الوقت.
وحتى الصحف الأمريكية لم تستطع إنكار هذه الحقائق، إذ أقرت صحيفة “واشنطن بوست” بفشل العقوبات على روسيا، لكنّها بررت هذا الفشل بالقول إنّ هدف العقوبات “لم يكن الاقتصاد الروسي”، وإنّما “إعاقة المجهود الحربي الروسي في أوكرانيا فقط”، رغم اعترافها أيضاً بأنّ العجز التجاري الروسي للعام الماضي كان أقل من نظيره في الولايات المتحدة.
في المحصلة، يميل العديد من الخبراء حول العالم، إلى أنّ المنتدى الاقتصادي العالمي “دافوس”، بدأ يفقد وَهَجه وتأثيره، وذلك نتيجة أجندته المتأخرة عن التطورات الجارية حول العالم. ومن بين من يقرّ بذلك تشارلز جاف، مؤسس “تلفزيون الحرية” ذي التوجهات اليمينية (الداعمة للمنتدى غالباً)، الذي اعتبر أنّ المنتدى “فشل في التنبؤ ببعض العمليات في الاقتصاد العالمي، ولا سيما الأزمة الاقتصادية العالمية والأوروبية بين الأعوام 2008 إلى 2012″، وربّما هذا الأمر يتكرّر اليوم.
هذه الحقائق أصابت شهرة المنتدى بمقتل، وأظهرت حجم التخبّط لدى الدول الغربية، وخصوصاً تلك الأوروبية. ولهذا تُثار اليوم التساؤلات حول عدم حضور عدد كبير من قيادات العالم فاعليات ذاك المؤتمر، بخلاف السنوات السابقة.