عماد الشدياق نقلاً عن “القدس العربي”:
مرّ أسبوعان على انعقاد محادثات السلام للأزمة الأوكرانية في مدينة جدّة في المملكة العربية السعودية، وكأن شيئاً لم يكن. المشاركة الواسعة للدول (نحو 40 دولة) والأهمية الكبرى التي علّقها الغرب على تلك المحادثات لم تأت بأيّ حلّ يُذكر، وأقفل كتابها… وكأنّها لم تنعقد.
المعارك ما زالت مستمرة بين الطرفين، فيما الاستفزازات والخروقات الجوية المستجدّة بين روسيا ودول حلف شمالي الأطلسي (الناتو) على أشدّها منذ اليومين الماضيين.
في حين أنّ الولايات المتحدة تستمر بمدّ الأوكرانيين بالمساعدات وتتوعّد برفد الجيش الأوكراني بمزيد من الأسلحة النوعية والطائرات، وكان آخرها الأسلحة العنقودية.
المحادثات في السعودية لم تصل إلى الخواتيم السعيدة. كانت مبادرة كريمة من الرياض ومحطّ تقدير دولي، حاولت من خلالها الرياض تحريك مياه السلام الراكدة. المبادرة تأتي من صلب الاستراتيجية السعودية الرامية إلى جعل المملكة “قوة دافعة” لأيّ عملية سلام، أو حلّ لأيّ نزاعات في العالم. ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان يطمح إلى تعظيم الدور الدبلوماسي للمملكة باعتبارها “قوة إقليمي”.
علاقات ممتازة مع بكين
نجح بن سلمان في أكثر من محطة في ترسيخ تلك الصورة، خصوصاً حينما وضع المملكة منذ بداية الأزمة الأوكرانية، على مسافة واحدة من طرفي النزاع (روسيا وأوكرانيا) بل على مسافة واحدة من المعسكرين (الولايات المتحدة – أوروبا v/s روسيا – الصين).
بذلك حافظت المملكة على علاقات ممتازة مع بكين وكذلك مع موسكو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولم تقطع حبال الودّ مع الغرب… وهو ما مكنّها من لعب دور الوسيط الذي رحّب بمبادرته العالم أجمع، لكنّ تلك المبادرة لم تصل، للأسف، إلى الخواتيم السعيدة، ولم تحقق الاختراق المطلوب، وذلك لأنّ الأزمة الأوكرانية تشوبها الكثير من التعقيدات الدولية، وتبدو أكبر من قدرة السعودية على حلّها.
أمّا تلك التعقيدات، فيمكن اختصارها بالنقاط التالية أدناه:
1. السبب المبدئيّ الأول لتراجع حظوظ نجاح محادثات جدّة كان عدم مشاركة روسيا بها. روسيا هي الدولة التي تقود الحرب التي تفضّل تسميتها “العملية الخاصة”، وهذا يعني أنّ موسكو هي الجهة التي “تضع إصبعها على الزناد”. هي التي توقف القتال وهي التي تستأنفه. أي بعبارات أخرى أكثر تعبيراً، فإنّ موسكو هي صاحبة الكلمة الفصل في وقف الحرب، وبالتالي يستحيل إبرام أيّ “معاهدة سلام” أو إتفاقية أو حتى تسوية تخصّ الأزمة الأوكرانية، من دون مشاركتها أو موافقتها. وهذا يعني أنّ موسكو يوم أعلنت عدم مشاركتها بتلك المحادثات، حكمت عليها بالتعثّر قبل انعقادها.
2. من بين أبرز الدول المشاركة في محادثات جدّة، كانت الصين والهند والبرازيل والولايات المتحدة إضافة إلى دول أوروبية أخرى معروفة باصطفافها خلف الولايات المتحدة ومعروفة بمواقفها المسبقة من الأزمة الأوكرانية. هذه الدول اصطفت خلف أوكرانيا من ناحية مبدئية منذ بداية الحرب في شباط (فبراير) 2021، لكن في المقابل وجدت كييف صعوبة بالغة في كسب دعم دول أخرى وتجديداً “دول الجنوب” واقتصاداتها مثل الصين أو البرازيل أو الهند أو إيران أو حتى دول افريقيا.
هذا الواقع، أوحى أنّ كل دعم يُقدّم للأوكرانيين، هو بمنزلة دعم أو تقديم ولاء للولايات المتحدة الأمريكية أو الغرب، خصوصاً أنّ الاعتقاد السائد حول العالم اليوم، هو أنّ أوكرانيا تقود حربَ حلف شمالي الأطلسي (الناتو) على أراضيها ضد روسيا بالوكالة، وليس حربها الخاصة، لأنّ كييف في مرحلة من المراحل لم تتلمّس حجم الخطر المحدق بسلامة أراضيها، وأصرت على طلب الانضمام إلى حلف (الناتو) وهو القرار الذي سرّع في اندلاع الصراع.
3. صيغة السلام التي تنطلق منها المحادثات هي صيغة الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي ببنودها الـ10. هذه الصيغة لا تتوافق مع مصالح روسيا، التي ترى أوساطها، أنّها محاولة التفاف لإعادة موسكو إلى المربّع الأول. أي إعادتها إلى ما قبل 24 شباط (فبراير) 2022. روسيا ترفض الانسحاب من منطقة دونباس بشكل نهائي ولا رجوع عنه، وتريد لأيّ مفاوضات أن تنطلق من هذه المسلمّة.
تعتبر دوائر القرار في موسكو أنّ صيغة زيلينسكي للسلام هي إشارة إلى استمرار الصراع في المناطق الناطقة باللغة الروسية، أي هي عودة إلى ما تعتبره موسكو “قتلاً جديداً للمدنيين في دونباس”، خصوصاً أنّ للروس تجربة مع كييف منذ أيام “اتفاقيات مينسك” التي لم تُنفّذ.
بل أكثر من ذلك، فإنّ موسكو تعتبر أنّ كييف تخدع المجتمع الدولي، فتصوّر لدعاة التلاقي والسلام مثل السعودية وغيرها، أنّها تريد حلاً سلمياً للصراع، لكنّ الشكوك التي تنتاب روسيا حيال هذه النوايا، تذهب أبعد من كييف، بل تذهب تحديداً نحو الدول الغربية الداعمة لأوكرانيا، أي نحو الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا اللتين تعارضان التسوية السلمية، وتراهنان في نظر موسكو، على الاختراقات الأوكرانية في الميدان (وإن باتت صعبة جداً)، ولا مشكلة لديهما من إطالة عمر الحرب أبداً.
الدول المشاركة
أمام هذا الواقع، قد يسأل سائل: إن كانت الدول المشاركة في جدّة، تعرف مسبقاً أنّ هذه المحادثات لن يُكتب لها النجاح وهي شبه صورية، وتعرف أيضاً أنّ روسيا رفضت حضور المحادثات… فما الفائدة من المشاركة بها إذاً؟
بدوره، يُختصر الجواب على هذه التساؤلات بالتالي:
1. الدول المشاركة في محادثات جدّة، ما كانت تريد أن تظهر بموقع معارض أو معادٍ لتطلعات المملكة العربية السعودية وطموحاتها، ولهذا ربّما أرادت المشاركة من أجل نجاح مبادرة ولي العهد السعودي على الرغم من ذاك الأفق شبه المسدود.
2. أظهرت أوكرانيا رغبة واضحة من أجل انخراط دول الخليج، والسعودية تحديداً، في عملية البحث عن حلّ للأزمة. كييف تعتبر أنّ المحادثات مثّلت “انفراجة” أظهر أنّه من الممكن حشد الدعم العالمي وراء خطة النقاط العشر الخاصة بها لإنهاء. وقد تُرجمت هذه الرؤية في كلام وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا الذي قال: “إذا أراد بلد ما أن يكون في صدارة المشهد العالمي، عليه أن يصبح جزءاً من اجتماعات التنسيق”.
3. مشاركة هذه الدول في المباحثات، تعدّ دلالة على رغبة المجتمع الدولي القوية في البحث عن مخارج للصراع وإنهاء الاقتتال، وذلك لأنّه لم يعد يُضرّ أوكرانيا أو روسيا فحسب، بل امتدت تداعياته إلى دول العالم أجمع، فاستنزفت مقدراته المالية ومخزوناته من الأسلحة والعملات الصعبة، كما تسببت بتضخم الأسعار حول العالم وإفقار دول الجنوب التي هي أصلاً فقيرة، كما حرمت شعوب تلك الدول من القوت اليومي وأنهكت القدرة الشرائية لسكان المعمورة.
4. لم تهتم المملكة العربية السعودية بنجاح المحادثات أو بفشلها، بقدر ما اهتمت بانعقادها. فالجانب السعودي يشعر أنّه جرى التخلي عنه مع تفاقم صراعه مع إيران في السنوات السابقة، ولهذا تنظر المملكة إلى الصراعات بطريقة مختلفة عن نظر بقية الدول. أضف إلى هذا أنّ المبادرة السعودية لم تكن مؤدلجة أو موجهة ضد طرف من الأطراف، بل تندرج في إطار سياسة اقتصادية وأمنية أكثر براغماتية وتعكس القناعة بأنّ المنافسة يجب ألا تتحوّل إلى تحديات بين مناطق أخرى حول العالم.
أمام هذا الواقع، يبدو أنّ السلام في أوكرانيا قد ينتظر المزيد من الوقت. ينتظر نضوج الحلول وموافقة روسيا على الانخراط في محادثات ترى فيها مكاسب جديّة… وإلاّ فإنّ أصوات المدافع هي التي ستسود وتستمر.