في الطائرة الحربية مع جون كيري

26 ديسمبر 2023
في الطائرة الحربية مع جون كيري

رحل وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر عن مئة سنة.
المخرج وودي آلن قال مرة “جامعة هارفرد غير منزهة عن الأخطاء أيضاً، لقد قام بالتدريس فيها هنري كيسنجر”.
الدبلوماسي والسينمائي يهوديان بارعان في الأقوال المأثورة، صاحب نظرية “خطوة خطوة” رحل والشرق الأوسط يتراجع أميالاً إلى الوراء.
من المفيد على ضوء ما يحصل اليوم في غزة، العودة إلى كتاب وزير خارجية آخر هو جون كيري، في مذكراته التي حملت عنوان “كل يوم هو إضافة” كتب أن الشيطان يكمن في سياسة “خطوة خطوة”.
برأي كيري كان “المطلوب بين الإسرائيليين والفلسطينيين حلاً واسع النطاق يبت قضايا الوضع النهائي بدفعة واحدة”.
الغريب أن السياسة الأميركية، ومنذ أكثر من عشر سنوات، ذهبت في اتجاهات أخرى معاكسة تماماً. تراوحت هذه السياسة بين “إدارة الأزمة” أو تجاهلها.
من هذه المسافة البعيدة تعود أميركا إلى “حل الدولتين”، هذه الاستفاقة الجديدة لم تعجب كيسنجر، وقبل موته بأيام قال لمجلة “بوليتيكو” وهو يتسقط أخبار “طوفان الأقصى”، إن “حل الصراع في فلسطين عبر إقامة الدولتين لا يضمن هدوء الوضع في المنطقة مستقبلاً”.
وأضاف “حل الدولتين لا يضمن أن ما رأيناه في الأسابيع الأخيرة لن يتكرر مرة أخرى، وأعتقد أنه ينبغي تسليم الضفة الغربية إلى السيطرة الأردنية، بدلاً من السعي إلى حل الدولتين الذي في نتيجته ستسعى إحدى الدولتين، وستصمم على سحق إسرائيل”.
من نصدق؟ كيسنجر أو كيري أو خلفهما أنتوني بلينكن؟
مارتن إنديك المبعوث السابق لعملية السلام في الشرق الأوسط خلال عهد الرئيس بيل كلينتون، والذي استقال من منصبه على إثر تعثر مفاوضات السلام الفلسطينية – الإسرائيلية بعد أقل من سنة من تكليفه، كتب في “واشنطن بوست” عن وصية أخرى لكيسنجر، مفادها بأن “من الضروري دائماً تجنب الكثير من الشغف في البحث عن السلام”.

إنديك اليائس، أسرّ مرة بنصيحة إلى جون كيري تقول “يمكنك جلب ناقتين إلى ينبوع ماء في الصحراء، لكن لا يمكنك إجبارهما على الشرب”.
لا شك أن إدارة جو بايدن تدرك الماضي القاتم لعملية السلام المستحيل، وتدرك الخلاصة التي قالها جون كيري في كتابه وهي أن “زعماء العالم لا يقلقون في شأن ما سيحدث في حال حضور أميركا، بل يقلقون مما سيحدث في حال غياب أميركا”.
أحاجي السياسة الأميركية لا تنتهي، فلكيسنجر مقولة مناقضة من شأنها أن تصيب زعماء العالم بالحيرة والإحباط. يقول “أن تكون عدواً لأميركاً فهذا أمر خطر، لكن أن تكون صديقها فهذا أمر قاتل”.
أطراف الصراع في الشرق الأوسط من إسرائيليين وعرب وفلسطينيين، كل يريد “أميركا خاصة به”، لكن هل تستقر أميركا على رأي؟
في الشرق الأوسط أميركا مندفعة اليوم لتحقيق “حل الدولتين”، في زمن “انحلال الدول” وتحولها إلى دويلات. من ليبيا إلى السودان وسوريا ولبنان. كل دويلة قادرة على افتعال طوفان على شاكلة “طوفان حماس”.
كل طرف في الصراع يشبه حبل المطاط، مهما شدت به أميركا سيعود وينكمش إذا أفلتت يدها. مرونة نتنياهو، واستفاقة “أبو مازن”، و”تقية” “حماس”، ومقايضات إيران، كلها أفعال ستذهب أدراج الرياح إذا لم ينجح بلينكن في فرض “الوضع النهائي” كما يوصي كيري في كتابه.
ربما كيري لا يعرف المثل الفرنسي القائل “هو أمر جميل إلى درجة أنه لا يمكن أن يكون حقيقياً”.
بكتابه أيضاً يشير كيري إلى “مرحلة لمس فيها عند بنيامين نتنياهو ومحمود عباس نوعاً من قبول المخاطرة وانتهاز الفرصة”، وأن نتنياهو قال له “لا أستطيع أن أموت مرفوعاً على صليب صغير”، بمعنى أن أياً من الزعيمين لن يرغب بتحمل أخطار كبيرة مقابل خطوات صغيرة. من الواضح، بعد “طوفان غزة”، لا توجد إلا الصلبان التي تنتظر كل أطراف النزاع.
في إحدى زياراته، طلب كيري وهو طيار حربي سابق، أن “يقوم بجولة جوية فوق إسرائيل. من فوق أدهشته المساحة الضيقة لهذه الدولة”. صرخ به معاونه “استدر بالطائرة أنت على وشك التحليق فوق مصر”.
وليستعرض مهاراته قام كيري بمناورة أكروباتية، ورسم بالطائرة دائرة في الجو. وقال “صارت السماء تحتي والأرض فوقي، هأنذا أخيراً أرى الشرق الأوسط بكل وضوح، رأساً على عقب”.​