نشر موقع “الجزيرة نت” تقريراً تحت عنوان: “عيون أميركية وطلقات إسرائيلية.. قصة التعاون الاستخباري بين واشنطن وتل أبيب”، وجاء فيه:
وأشارت مصادر عِدة، منها صحيفة هآرتس الإسرائيلية، إلى احتمالية استخدام الجسر العائم في العملية، في خطوة يُمكن أن تنسف جهود الهُدنة الأميركية، وتُسقِط ورقة التوت الأخيرة عمَّا تبقى من مصداقية أميركية في تلك الحرب.
الإسرائيليون ليسوا وحدهم، وهُم يعلمون ذلك تمام العِلم منذ عقود، وإلا ما استطاعوا الاستمرار في معركتهم مع فصائل المقاومة الفلسطينية منذ السابع من تشرين الأول الماضي، بل ومن قبلها مع شتى أشكال المقاومة الفلسطينية والتحركات العسكرية العربية منذ زمن الحرب الباردة.
وتُعَد إسرائيل أكبر متلق للمساعدات الخارجية الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ووفقا للمؤشرات الرسمية الأميركية، بلغت المساعدات الإجمالية المقدّمة من الولايات المتحدة لإسرائيل نحو 158.6 مليار دولار بين عامي 1946-2023. معظم المساعدات الأميركية لإسرائيل تصب في القطاع العسكري، التي بلغ حجمها في الفترة نفسها نحو 114.4 مليار دولار، إضافة إلى نحو 9.9 مليارات دولار للدفاع الصاروخي.
أما عقِب عملية طوفان الأقصى، أخذ الدعم منحنى تصاعدي، ففي مطلع تشرين الثاني الماضي، وافق مجلس النواب الأميركي على طلب إدارة الرئيس جو بايدن بتخصيص “حزمة مساعدات غير مسبوقة” لإسرائيل بقيمة 14.3 مليار دولار.
لكن الدعم الأميركي لا يتوقف عند هذا الحد، بل يشمل تدخلا مباشرا في مجريات الحرب على الأرض عبر دعم لا يلقى الاهتمام الإعلامي ذاته رغم تأثيره، ذلك أنه أحد أهم ركائز استمرار أي عملية عسكرية إسرائيلية، تمامًا كما أثبتت عملية تحرير الأسرى الإسرائيليين الأربعة بالأمس.
ماذا يحدث في الغرف المظلمة؟
من المعروف أن التنسيقات تجري في الكواليس بعيدا عن الأضواء في أجواء ترشح بالغموض، مع تغييب متعمد لأي توثيق معلوماتي، لكن الحرب على قطاع غزة أزاحت كثيرًا من الأستار، فنطق رجال الظل، ودُفع بالتعاون إلى أقصى مدى. وصلت مدَيات التنسيق بين الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية لتتجاوز العتبة الاستراتيجية، وتمتد نحو أرض التكتيكات والتفصيلات الميدانية التي عبَّدت الطريق أمام عمليات القصف والاغتيال المستمرة على مدار أكثر من 5 أشهر.
من أبرز مظاهر هذا التعاون كان استخدام ثقل سمعة الأجهزة الاستخباراتية الأميركية من أجل تقديم غطاء لأفعال الجيش الإسرائيلي الإجرامية وتبريرها؛ وتم ذلك على إثر تقديم تلك الجهات الأميركية معلومات تبيَّن أنها مضللة، في سبيل استباحة مستشفيات القطاع، وأشهرها عملية اقتحام مستشفى الشفاء بدعوى “وجود نقطة قيادة ومراقبة للمقاومة الفلسطينية داخل المستشفى”، وفقا لمعلومات استخباراتية أعلنها البنتاغون رسميًا وكشفت إدارة الاستخبارات الأميركية السرية عنها.
الأمر هذا هذا ما أشار إليه “مارك بوليميروبولوس”، المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، حيث قال إن “الولايات المتحدة رفعت السرية عن هذه النتائج لأن الهدف الواضح منها هو منح متنفَّس لإسرائيل”، خاصة بعد الغضب العالمي بسبب حصار جيش الاحتلال للمستشفى.
بالطبع ثمة أسس عميقة قديمة سبقت هذا التطور التنسيقي الحالي، فأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لطالما سوَّقت نفسها على أنها بمثابة عين وأذن الاستخبارات الأميركية في الشرق الأوسط.
وقبل مجيء الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، كان التبادل المعلوماتي بين جهازي الاستخبارات الأميركي والإسرائيلي مقتصرا في الأغلب على الجانب الإستراتيجي لا التكتيكي التفصيلي، وهذا ما أكده مسؤولون أميركيون لصحيفة “وول ستريت جورنال”، حيث أوضحوا أن وكالات الاستخبارات الأميركية توقفت عن التجسس على حركة حماس وغيرها من حركات المقاومة الفلسطينية في السنوات التالية لهجمات 11 أيلول عام 2001، وأنها وجَّهت مواردها لملاحقة قادة تنظيم القاعدة، ثم تنظيم “داعش” لاحقاً.
لكن السنوات القليلة الماضية، وخاصة في ظل إدارة ترامب، شهدت تزايدًا في مستوى التنسيق والاتصال بين أجهزة الاستخبارات، وتعمَّقًا في التعاون الأمني الأميركي الإسرائيلي، لا سيَّما مع توجه اهتمام الإدارة الأميركية السابقة نحو مواجهة إيران وشبكاتها في المنطقة، وهو ما توِّج بتنسيق عالي المستوى علي صعيد بعض العمليات الأمنية المحدودة بين واشنطن وتل أبيب داخل إيران، والتي لعب فيها التبادل المعلوماتي دورا بارزا.
لذلك، عندما وقع الهجوم على غزة كان المسرح مُهيَّئا للدعم والتنسيق بين مؤسستي الاستخبارات في واشنطن وتل أبيب، وبات الجهازان بمثابة جهاز واحد فيما يتعلَّق بمجابهة المقاومة الفلسطينية وحلفائها.
واشنطن تُرقِّي حماس للمستوى الثاني!
تحدَّث “مايك تِرنر”، عضو الحزب الجمهوري ورئيس لجنة المخابرات بمجلس النواب الأميركي، في 3 كانون الأول الماضي عن ملامح المرحلة الجديدة من التعاون الاستخباراتي الأميركي الإسرائيلي في حوار مع برنامج (Face the Nation)، وسرد بعضًا من التفاصيل فيما يتعلق بمشاركة المخابرات الأميركية في العمليات الإسرائيلية أثناء الحرب الحالية على قطاع غزة، مؤكدا أن “الولايات المتحدة تساعد في تحديد مواقع قيادات حركة حماس”، وأن وكالة الاستخبارات الأميركية تعمل عن قرب مع إسرائيل لسد بعض الفجوات الواضحة لديهم.
وفي كانون الثاني الماضي، أكد مسؤولون أميركيون لصحيفة نيويورك تايمز، أن وكالة الاستخبارات المركزية أنشأت فرقة عمل خاصة جديدة بعد عملية طوفان الأقصى لجمع معلومات عن كبار قادة حماس، ومواقع الرهائن في قطاع غزة، ثم أخذت تقدم تلك المعلومات الاستخباراتية مباشرة لإسرائيل.
وأوضح المسؤولون للصحيفة أن الولايات المتحدة رفعت من درجة أولوية حركة حماس إلى المستوى الثاني، ورفع مستوى الأولوية معناه توفير تمويل إضافي لجمع المعلومات الاستخباراتية، مع أن حركة المقاومة الفلسطينية لا تشكل أي تهديد مباشر لأمن الولايات المتحدة أو مصالحها المباشرة في الشرق الأوسط.
وقبل عملية طوفان الأقصى، كانت حماس أولوية من المستوى الرابع، ما يعني تخصيص موارد أقل لجمع المعلومات الاستخباراتية حولها، ولكن منذ بداية الحرب رُفِعت درجة الأولوية إلى المستوى الثاني. أما المستوى الأول، الذي يستحوذ على أغلب الموارد الاستخباراتية، فهو مُخصص للأعداء المباشرين ممن يُمكن أن يُشكلوا تهديدًا مباشرًا أكبر للولايات المتحدة ومصالحها، مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران.
يعني هذا أن الولايات المتحدة تشارك بكل ما تملك من عتاد ومعلومات استخباراتية لدعم إسرائيل في حرب الإبادة الجارية على قطاع غزة، ويعني أيضًا أن أحداث طوفان الأقصى أجبرت أجهزة الاستخبارات الأميركية على التدخل بنفسها، بعد الفشل الاستخباراتي للأجهزة الإسرائيلية، خاصة في ما يتعلق بحركة حماس، التي كانت مسؤولية جهاز المخابرات الداخلي الإسرائيلي “الشاباك”، ولذا تسعى أميركا الآن لتقديم عمليات دعم استخباراتي تكتيكي واسعة لصالح إسرائيل.
من أمثلة المعلومات الاستخباراتية الاستراتيجية الأخيرة كانت سلسلة من التقارير التحليلية التي أجرتها وكالة الاستخبارات الأميركية، وحذَّرت إسرائيل من ارتفاع ملحوظ في مصداقية وتأثير حركة المقاومة الإسلامية حماس داخل وخارج الشرق الأوسط على مدار الأشهر الماضية، وتحديدًا منذ عملية طوفان الأقصى، ثم مع بداية العدوان العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة.
وذكرت التقارير أن “حماس نجحت في تقديم نفسها بوصفها حركة المقاومة المسلحة الوحيدة التي تقود حربًا على الطاغية المتوحش الذي يقتل الأطفال والنساء”، وربما ما يمكن استنتاجه أن هذه المعلومة مهمة ومؤثرة على السردية الإسرائيلية، وقد تعني خسارة إسرائيل للمعركة المعلوماتية الأهم في الحرب الجارية وفي المستقبل على المدى البعيد.
لكن ماذا يعني أن تكون المساعدات الاستخباراتية الأميركية المقدمة لإسرائيل في حرب غزة ذات توجه استخباراتي تكتيكي؟ يعني أن الدعم المقدم هو من النوع الذي ينبني عليه أعمالا قتالية، وتُسمَّى تلك الاستخبارات بالتنفيذية أو الفعَّالة (Actionable Intelligence)، وهو مصطلح يشير إلى المعلومات المفيدة والمهمة التي تساهم مباشرة في العمليات العسكرية على الأرض، مثل تحديد أهداف الاغتيالات وأهداف القصف بالضربات الجوية، والمساعدة في البحث عن الرهائن، واستخبارات الإشارات.
كل هذا بجانب عمليات الاستطلاع المختلفة، التي تنفذها طائرات أميركية، لجمع المعلومات ومساعدة أجهزة المخابرات الإسرائيلية، وهذا النوع من المعلومات محدد أكثر ويملك تأثيرًا فوريًا عند مقارنته بالمعلومات الاستخباراتية الاستراتيجية الأوسع التي ترتبط أكثر بصُنَّاع القرار على المدى الطويل.
وتشمل المعلومات الاستخباراتية التكتيكية معلومات لتحديد أهداف القصف على سبيل المثال، حيث يستخدم الجيش الإسرائيلي أنظمة الذكاء الاصطناعي، مثل نظام “غوسبِل”، لتحديد أهداف القصف داخل قطاع غزة، كما يستخدم المدفعية الثقيلة في عمليات القصف بعيدة المدى.
ويحتاج القصف الإسرائيلي إلى معلومات استخباراتية مُسبَقة تشاركها القوات الجوية الأميركية، بعدما أرسلت ضباطًا متخصصين في هذا النوع الدقيق من الاستخبارات إلى إسرائيل في أواخر تشرين الثاني الماضي، وذلك وفقًا لوثيقة خاصة بقانون حرية تداول المعلومات أشار إليها موقع “ذه إنترسِبت” (The Intercept).
ويذكر الخبراء إن فريقًا من الضباط بهذا التخصص سيوفر معلومات استخباراتية عبر الأقمار الاصطناعية للاستهداف داخل غزة.
مثال آخر هو عمليات الاستطلاع وجمع المعلومات ومشاركتها مع أجهزة المخابرات الإسرائيلية. ففي بدايات شهر تشرين الثاني الماضي، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز، نقلًا عن مسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية، أن الجيش الأميركي كان يحلق بطائرات استطلاع مُسيَّرة فوق قطاع غزة، وأن الهدف كان البحث عن الرهائن المُحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية.
وأشارت الصحيفة إلى أنها “خطوة غير مسبوقة، ما يشير إلى انخراط أجهزة المخابرات الأميركية أكثر مما كان معروفا في السابق”. (الجزيرة نت)