كتب أستاذ الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية، كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية وليد صافي:
اصبح واضحاً أن الصراع بين بوتين والغرب عموماً وأوروبا خصوصاً، يدور بين “مشروعين جيوسياسيين”. المشروع الغربي – الأوروبي يجد أسسه في خطاب جورج دبليو بوش عام ١٩٨٩ “أوروبا الكاملة والحرة”. بدأت ترجمة هذا المشروع في عام ١٩٩٠ ، اذ جرى توسيع الاتحاد الأوروبي ليصبح ٢٧ دولة في عام ٢٠٠٨ وحلف شمالي الأطلسي الذي اصبح يضم حالياً ٣٢ دولة بعد انضمام دول البلطيق وفنلندا والسويد .
اما مشروع بوتين فهو اعادة بناء المجال الحيوي لروسيا في عدد من دول الاتحاد السوفييتي السابق. المشروع الجيوسياسي هذا، مبني على اطروحة ألكسندر دوغين التي تحمّل الغرب مسؤولية سقوط الاتحاد السوفياتي الذي يعتبره بوتين “أعظم كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”. تبشّر هذه الاطروحة بأن لروسيا “مهمة تاريخية يجب انجازها في فضاء دول الاتحاد السوفيتي السابق”. كما لها ” دور حاسم يجب ان تلعبه على مستوى العالم”. أما ادوات تحقيق هذا الدور، فهي بنظر دوغين “التوسّع المستمر”. إذ “أن الحرب بنظره متأصّلة بشكل دائم في التاريخ الروسي، ويجب أن يُنظر إليها على أنها ضرورة أو حتى هدف لروسيا”.
الغرب وبوتين مشروعان لا يلتقيان
في الواقع، لا يبدو ان الغرب على استعداد لمراجعة مشروعه او التعامل بمرونة مع شروط بوتين لوقف الحرب، وزيارة زعيم المجر الى موسكو أثارت غضب معظم القادة الغربيين. لذلك يستمر الغرب، بعد سنتين من الحرب في أوكرانيا، في المضي في قراره الاستراتيجي، ضمّ ما تبقّى من اوروبا الشرقية وغرب البلقان ومولدافيا، وجورجيا وأوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمالي الأطلسي. بوتين من جهته، يمقت قيم النظام العالمي الحالي، ويعتبر تمدد حلف شمال الاطلسي نحو حدود روسيا تهديداً وجودياً، ويعمل مع صديقه الرئيس الصيني شي جين بينغ على توفير شروط قيام نظام عالمي جديد يكون ميزان القوى فيه لمصلحة بلديهما.
تعثُّر بوتين في تحقيق اهدافه الاستراتيجية في أوكرانيا، لم يؤد إلى طيّ صفحة مشروعه. فهو يسيطر حالياً، من خلال عدد من الإنجازات الميدانية، على اجزاء مهمة من شرق أوكرانيا. كما يسيطر منذ عام 2008، على منطقتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا وعلى منطقة القرم منذ عام 2014. ويحتفظ بقوات روسية في ترانسنيستريا احدى المقاطعات في مولدوفا والتي تطالب بالانضمام إلى روسيا. كما يحتفظ بجيب كالينينغراد الذي يطلّ على بحر البلطيق ويقع بين دولتي ليتوانيا وبولندا في القارة الأوروبية، ومن المرجّح أن يكون قد نشر اسلحة غير تقليدية في هذا الجيب.
وبرغم التحديات التي واجهها في بداية الحرب في أوكرانيا، والعقوبات الغربية غير المسبوقة على روسيا، استطاع بوتين ان يخرج من عزلته، بفضل سياسة الانفتاح على تركيا واقامته شراكة استراتيجية مع الصين، وينتظر توقيع اتفاق مماثل مع ايران التي تزوّده بالمسيّرات والصواريخ في حربه في اوكرانيا، على غرار اتفاقه الأخير مع كوريا الشمالية. وتمكّن بوتين أيضاً من تعزيز موقعه في منظمة شنغهاي وفي دول البريكس لاسيما مع الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وأقام تفاهماً كبيراً مع المملكة العربية السعودية في منظمة اوبك. وفي المقابل، أوروبا التي ما زالت بحاجة الى الولايات المتحدة الأميركية للدفاع عن أراضيها، تضاعف إنفاقها العسكري، بحيث،ولأول مرة، تتخطّى بعض الدول في انفاقها العسكري نسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي. واوروبا تنتظر ايضاً، تعب روسيا الاقتصادي، وربما يراهن البعض من القادة الاوروبيين على المدى البعيد على مرحلة ما بعد بوتين. هذا الأخير الذي لن يخسر الحرب ولكنه لن يربحها، حسب معظم المتابعين، ينتظر بدوره تحوّل أوروبا إلى اليمين وتفكك التحالفات الغربية ضد نظامه. بالتأكيد فشل أقصى اليمين الفرنسي بتحقيق اكثرية برلمانية يوم الاحد الفائت فوّت عليه رهانات سياسية كبيرة. كما ينتظر وصول صديقه ترامب إلى البيت الابيض، إذ يراهن عليه في التخلّي عن اوكرانيا واوروبا وتركهما يواجهان مصيرهما مع روسيا. كما يراهن على غرق ترامب في الحروب التجارية مع الاصدقاء قبل الخصوم.
الرهانات على السلاح النووي
روسيا التي نشرت اسلحة نووية في بيلاروسيا وتهدد بإجراء تعديلات على عقيدتها النووية، تدفع قدماً بمشروع رفع عدد الجيش الروسي إلى حوالي ثلاثة ملايين جندي. وقد حوّل بوتين الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد الحرب، إذ تعمل الصناعات العسكرية بطاقتها الواسعة. والألمان الذين يعتقدون بوقوع الحرب عام ٢٠٢٩، قد بدأوا من جهتهم بإنفاق عسكري غير مسبوق، والتعامل بجدية مع نقاط الضعف التي أظهرها الجيش الالماني في غير مجال منذ اندلاع حرب أوكرانيا.
يبدو أن الصراع سيستمر لسنوات طويلة، والرهان على الاسلحة النووية قفز إلى مقدم الرهانات. إذ أن الدول النووية في كلا الطرفين،أنفقت ما يقارب ٩٠ مليار دولار على تحديث ترسانتها النووية( مبلغ يساوي حاجة الامم المتحدة لمواجهة ازمة الجوع في العالم بحسب مسؤولين في الامم المتحدة)، وقد اصبح أكثر من الفي صاروخ نووي في حالة جهوزية تشغيلية كاملة.
حلف شمال الاطلسي يحتفل هذا الأسبوع في واشنطن بالذكرى ال٧٥ لإنشائه، وكلام أمينه العام ستولتنبرغ في “الفورين أفيرز”، يؤكد أن العالم بعيد عن التسوية بين الغرب وروسيا، وأن المنافسة بين الغرب والصين اقتربت من حدود البدء بمرحلة الصراع. إذ قال:”سنعزز دعمنا لأوكرانيا، ونعمل جنباً إلى جنب مع شركائنا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ بشأن مخاوفنا الأمنية المشتركة. والحلف أعدّ نفسه بشكل أفضل للمنافسة الدائمة مع الصين، بما في ذلك عن طريق الحدّ من التبعيات الضارة وزيادة حماية بنيته التحتية الحيوية ومواده الاستراتيجية وسلاسل التوريد”.
يفتقر العالم إلى زعماء عقلانيين أمثال جون كيندي ونيكيتا خروتشيف اللذين تمكنا من تجنيب العالم كارثة نووية اثناء ازمة الصواريخ في كوبا عام ١٩٦٢.