وصل حزب العمال إلى السلطة في بريطانيا أخيراً بتفويض للتغيير وطموحات كبيرة لتنمية الاقتصاد وإعادة بناء الخدمات العامة. وهو يريد التحرك بسرعة لتنفيذ تعهداته المبكرة مع الالتزام بحدود الإنفاق التي فرضها على نفسه.
ولكن على المدى الأبعد، ومن أجل تحقيق أهدافه الأوسع نطاقاً، سيتعين على حزب العمال أن يعالج أربع قضايا رئيسية أزعجت الحكومات المتعاقبة: الرعاية الاجتماعية، والإسكان المجالسي، وتمويل الجامعات، والفقر، وفق تحليل لـ theconversation، اطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
هذه التحديات صعبة لأن الحلول سوف تتطلب التزاماً طويل الأمد بالموارد، وسوف تكون هناك تكاليف سياسية فضلاً عن الفوائد المترتبة على معالجتها.
كل هذه التحديات وصلت الآن إلى نقطة الأزمة، حيث أصبح التحرك مطلوباً على وجه السرعة.
حل هذه التحديات أمر حيوي لتحقيق أهداف النمو والإصلاح التي يتبناها حزب العمال.
في الحملة الانتخابية، لم يتحدث حزب العمال كثيراً عن خططه في أغلب هذه المجالات. ولكن الآن وقد أصبح في الحكومة، فسوف يحتاج إلى وضع استراتيجية متماسكة خشية أن تؤدي هذه الخطط إلى إعاقة الأهداف المركزية لحزب العمال وإعاقة أمل الحزب في إعادة بناء الثقة في الحكومة.
أولاً- الرعاية الاجتماعية
يشير التقرير إلى أن إصلاح الرعاية الاجتماعية يشكل أهمية بالغة لإصلاح هيئة الخدمات الصحية الوطنية. وبدون التعامل مع مشكلة الرعاية الاجتماعية، فسوف تجد الحكومة صعوبة بالغة في تحرير أسرة المستشفيات وتقليص قوائم الانتظار. كما يشكل هذا جزءاً أساسياً من طموحات ويس ستريتنج (وزير الصحة) لتحويل الإنفاق الصحي من الرعاية الحادة في المستشفيات إلى الرعاية المجتمعية والوقائية.
من المعروف على نطاق واسع أن نظام الرعاية الاجتماعية في المملكة المتحدة يعاني من أزمة: فهو مختل وغير عادل ومجزأ ويعاني من نقص التمويل، بحسب التقرير.
وعلى النقيض من هيئة الخدمات الصحية الوطنية، فإن الرعاية الاجتماعية ليست مجانية عند نقطة الاستخدام، بل يتم اختبارها من قبل السلطات المحلية التي تدفع ثمنها وتضع قواعد الأهلية. ومن الصعب تبرير سبب تلقي الأشخاص للعلاج مجاناً من قبل هيئة الخدمات الصحية الوطنية إذا أصيبوا بالسرطان، بينما إذا أصيبوا بالخرف، فقد يضطرون إلى رهن جميع أصولهم!
إن أولى العوائق العديدة التي تحول دون التوصل إلى حل لمشكلة الرعاية الاجتماعية هي التكلفة. إذ يتوقع مكتب مسؤولية الميزانية أن ترتفع تكاليف الرعاية الاجتماعية مع تقدم سكان المملكة المتحدة في السن بوتيرة أسرع من أي فئة أخرى من الإنفاق الحكومي.
ولكن على الرغم من ربع قرن من المحاولات للوصول إلى توافق في الآراء بشأن كيفية دفع تكاليف الرعاية الاجتماعية ــ بما في ذلك اقتراح حزب العمال في عام 2010 بفرض “ضريبة الوفاة” ، واقتراح تيريزا ماي في عام 2017 بفرض “ضريبة الخرف”، واقتراح تقرير ديلنوت في عام 2011 بوضع حد أقصى للمبلغ الذي ينبغي لشخص ما أن ينفقه على رعايته ــ فقد تعثرت جميعها أو تأخرت في مواجهة المقاومة السياسية الشرسة.
اعترف حزب العمال بنقص القوى العاملة في قطاع الرعاية وتعهد برفع الأجور وتوفير المزيد من التدريب، لكنه لم يذكر كيف سيتم تمويل ذلك.
إن تطلعات الحزب إلى إنشاء خدمة رعاية وطنية ، والتي اقترحها في عام 2005، لا تزال بعيدة المنال في ظل الافتقار إلى الوضوح بشأن التمويل ودور الحكومة وكيفية ارتباطها بالخدمة الصحية الوطنية، وفق التقرير.
ثانياً- الإسكان الاجتماعي
كان حل أزمة السكن في المملكة المتحدة أحد الركائز الأساسية للحملة الانتخابية لحزب العمال ، وقد تحرك حزب العمال بسرعة للإعلان عن تغييرات في نظام التخطيط لتسهيل تحقيق هذا الهدف.
على مدى عقود من الزمان، فشلت المملكة المتحدة في بناء ما يكفي من المساكن، مما أدى إلى ارتفاع أسعار المساكن وارتفاع الإيجارات وتزايد التشرد، ومشاكل للأجيال الشابة في الحصول على المساكن.
ومن ثم فإن بناء المزيد من المساكن من شأنه أن يعزز الاقتصاد، ويوفر فرص العمل، ويحسن الحراك الاجتماعي، وفي نهاية المطاف يسدد تكاليفه بنفسه.
تعهد حزب العمال ببناء 300 ألف منزل سنوياً، وهو ما يفوق المتوسط التاريخي بكثير. ولكن إصلاح التخطيط وحده، على الرغم من الترحيب به، من غير المرجح أن يضمن تحقيق هذا الهدف. وسوف يضطر حزب العمال أيضاً إلى زيادة التمويل المخصص للإسكان الاجتماعي بشكل كبير. فقد أظهرت تجربة السنوات الأربعين الماضية، عندما تم بناء عدد قليل جداً من المساكن العامة، أن القطاع الخاص وحده لم يتمكن قط من بناء هذا العدد الكبير من المساكن.
ولكن الخطة الحالية لحزب العمال، كما هو موضح في بيانه الانتخابي، هي الالتزام بخطط الحكومة السابقة لبناء 35 ألف منزل ممول من القطاع العام فقط سنويا، ونصفها فقط للإيجار.
ويثير بناء المزيد من المساكن الاجتماعية تحديات مالية وسياسية. بما في ذلك أن الأمر سيكون مكلفاً وقد يمدد القواعد المالية لحزب العمال (..)، علاوة على العديد من المعضلات السياسية الأخرى (..).
ثالثاً- تمويل الجامعة
إن مستقبل الجامعات هو أحد أكثر المشاكل الشائكة التي ورثتها الحكومة. فالوصول إلى الجامعة يشكل محركاً رئيسياً للتنقل الاجتماعي والمساواة في الفرص، فضلاً عن زيادة الإنتاجية. ومن الممكن أن يكون البحث العالمي الذي تجريه كبرى الجامعات في المملكة المتحدة محركاً رئيسياً للابتكار والنمو الاقتصادي الإقليمي.
لكن قطاع الجامعات في أزمة، حيث تواجه بعض الجامعات الإغلاق أو تخفيضات كبيرة في الدورات التي تقدمها، مع انخفاض دخلها. وفي الوقت نفسه، تثبط رسوم الدراسة والديون عزيمة بعض الطلاب المحتملين عن التقدم على الإطلاق.
وتواجه الحكومة الجديدة خيارات غير ملموسة؛ فرفع الرسوم الدراسية ــ التي تم تجميدها منذ عام 2017 ــ من شأنه أن يكون أسرع وسيلة لمساعدة تمويل الجامعات، ولكنه من شأنه أن يزيد من ديون القروض الطلابية ويثبط عزيمة الطلاب على التقدم بطلباتهم. كما أن هذا من شأنه أن يكون غير شعبي على الإطلاق.
ووفق التقرير، فإن إنقاذ الجامعات من خلال منح حكومية مباشرة لن يكون مقبولاً شعبياً فحسب، بل وسيكون مكلفاً أيضاً. وسوف يثير هذا تساؤلات حول الجامعات التي سوف تحظى بالدعم، ومدى الاستقلال الذي سوف تتمتع به. وبدلاً من الالتزام بتمويل غير محدود، قد تستسلم الحكومة الجديدة لإغراء خفض عدد الأماكن والدورات الدراسية، وهو ما قد تقاومه الجامعات بشدة.
رابعاً: الفقر
قال كير ستارمر القليل نسبياً عن معالجة الفقر في حملته الانتخابية، وركز بدلاً من ذلك على تكلفة المعيشة، ويبدو أنه يعتمد على النمو الاقتصادي لانتشال الناس من الفقر.
إن الإنفاق على الرعاية الاجتماعية لم يكن قط أمراً شائعاً، على الرغم من أن الجمهور أصبح مؤخراً أكثر تعاطفاً ، حيث يعتقد 19بالمئة فقط من الناس في المملكة المتحدة الآن أن طالبي الإعانات لا يستحقون المساعدة (انخفاضاً من 40 بالمئة في عام 2005). ومع الضغط على الإنفاق العام، يبدو تخصيص أي أموال فائضة للخدمة الصحية الوطنية والمدارس خياراً سياسياً عقلانياً.
ولكن في نهاية المطاف، سوف تضطر الحكومة إلى التعامل مع تحدي الفقر المتزايد بين الأطفال، والذي يؤثر الآن على أربعة ملايين طفل في المملكة المتحدة. ومن بين هؤلاء، يعيش مليون طفل في فقر مدقع ويعتمدون على بنوك الطعام.
ويلفت التقرير إلى أن إحجام حزب العمال عن زيادة الدعم لهم ــ على سبيل المثال، من خلال زيادة الائتمان الشامل أو إلغاء حد إعانة الطفلين ، الذي يعاقب الأسر الأكبر حجما ــ متجذر في اعتبارات مالية وسياسية.
ومثل المحافظين من قبلهم، تشعر الحكومة الجديدة بالقلق إزاء ارتفاع فاتورة الرعاية الاجتماعية مما قد يعرقل خطط الإنفاق المستقبلية. وتأمل أن يؤدي حث المزيد من الناس على العمل من خلال الرعاية الاجتماعية إلى تعزيز النمو الاقتصادي.
وفي نهاية المطاف، فإن الكيفية التي يتعامل بها حزب العمال مع الفقر سوف تكون بمثابة مؤشر على قيمه الأساسية. وإذا لم يكن النمو الاقتصادي كافياً لرفع كل القوارب، فهل ينبغي للحكومة أن تتدخل؟ إن الإجابة سوف تعتمد على ما إذا كانت رؤية حزب العمال للمجتمع تتضمن تحدي التفاوت بين الناس.
تحديات عديدة
من جانبه، يلفت خبير العلاقات الدولية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، الدكتور أحمد سيد أحمد، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إلى أن هناك عديداً من التحديات الداخلية والخارجية أمام حزب العمال الذي ورث تركة ثقيلة منها: تدهور الأوضاع الاقتصادية، وملفات السياسة الخارجية، فعلى مدار 14 عاماً من حكم المحافظين تدهورت الأوضاع الاقتصادية في بريطانيا، وارتفعت تكلفة معيشة المواطن، خاصة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وصعوبة تعويض هذا الأمر، لذلك كان التصويت لحزب العمال ليس حباً فيه بقدر ما هو عقاباً وانتقاماً من حزب المحافظين لفشله السياسي والاقتصادي الداخلي والخارجي.
حزب العمال أمامه تحديات كثيرة، وينبغي العمل على تبني سياسات اقتصادية تقود إلى تحسين الوضع الاقتصادي ومعدلات النمو والاستثمارات والمدخرات وتوفير فرص عمل، في ظل ارتفاع معدلات البطالة والفقر، خاصة بعد أن أصبح عدد كبير من المواطنين من الفقراء؛ بسبب ارتفاع تكلفة المعيشة وعدم قدرتهم على توفير الاحتياجات الأساسية، وهو ما ظهر في أزمة الخضراوات على سبيل المثال، بحسب خبير العلاقات الدولية.
ويضيف: هناك كذلك مشكلات خاصة بالمعاشات، وأصبح حزب العمال مطالب بسياسات سريعة لتحسين أوضاع الشعب البريطاني؛ لمواجهة التضخم وارتفاع الأسعار بشكل كبير.. الحزب مطالب أيضاً بالعمل على زيادة دخول البريطانيين، وكذا العمل على القضاء على الفقر المتزايد، وهذا يتطلب جهداً كييراً من حزب العمال، ولتعويض الخسارة الاقتصادية نتيجة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وعدم قدرة حزب المحافظين في تطوير بدائل للتغلب على التداعيات السلبية.
وحاول حزب المحافظين إيجاد شركات اقتصادية مع أميركا وعبر الأطلسي، وبناء شراكات مع دول إفريقية، والشرق الأوسط، لكن لم يعوض ذلك الخروج من الاتحاد الأوروبي، كما يلفت أحمد سيد أحمد، والذي يضيف: بالتالي حزب العمال مطالب بأن يعمل على إيجاد علاقة متوازنة قوية واضحة مع الاتحاد الأوروبي، وتقليل أضرار الخروج، في ظل تنامي استطلاعات الرأي بأن الخروج كان قراراً خاطئاً من جانب المحافظين.
الوفاء بالوعود الانتخابية
من جانبه، يشير الباحث وخبير العلاقات الدولية، الدكتور أيمن سمير، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية، إلى أن أبرز التحديات الداخلية التي ستواجه حكومة العمال هي الوفاء بالوعود التي قدموها للناخبين، مثل تقليل قوائم الانتظار في المستشفيات، فمن المعروف أن هناك ملايين من حالات الانتظار التي تحتاج حكومة العمال إلى تقديم رسالة واضحة للناخبين بشأنها، وهي أن أعدادهم سوف تتراجع على الأقل في المدى القريب خلال المئة يوم الأولى.
ويتابع: هذا يأتي إلى جانب مدى قدرة حزب العمال على توفير الأموال لتمويل سياساته دون فرض المزيد من الضرائب، وهي معادلة صعبة للغاية، لاسيما وأن الصورة الذهنية لدى الناخب هي أن العمال يفرضون ضرائب أكثر وينفقون أكثر من أجل أهداف سياسية تضر بالاقتصاد.. بينما حكومة العمال تعهدت بأنها سوف تعين عدداً كبيراً جداً من المعلمين، والشرطة دون أن تكون هناك أعباء إضافية، وهذا تحد كبير جداً.
التحدي الآخر هو قضية الهجرة، فأول قرار اتخذه رئيس الوزراء كير ستارمر بعد تعيينه مباشرة هو إلغاء ما يسمى بقانون رواندا، الذي كان يقوم على إعادة اللاجئين الأفارقة إلى رواندا، وقال إن لديه البديل الذي يتمثل في المزيد من التعاون مع دول الاتحاد الأوروبي حتى لا يأتي المهاجرون بالقوارب الصغيرة إلى الشاطئ الإنجليزي، بحسب سمير.
ويستكمل: هذه كلها تحديات كبيرة جداً، وربما هذا ما دفع رئيس الوزراء الأسبق توني بلير إلى مخاطبة العمال وإخبارهم أن أكبر تحد في طريقهم هو تقليل عدد المهاجرين غير الشرعيين إلى بريطانيا، والذي أدى إلى رفع عدد سكان بريطانيا في الفترة الأخيرة. (سكاي نيوز)