في وقتٍ كادت مجزرة المواصي في خانيونس، التي جاءت في ذروة الحديث عن المفاوضات القائمة للتوصّل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، تمرّ مرور الكرام، ليس فقط لأنّ العالم “طبّع” مع مشاهد قتل الفلسطينيين، ولكن أيضًا لأنّ إسرائيل “برّرتها” بزعم أنّ الهدف منها كان القضاء على قائد “كتائب القسام” محمد القسام، جاءت محاولة اغتيال من نوع آخر، لتخلط الأوراق في العالم كلّه، من بوابة الولايات المتحدة تحديدًا.
Advertisement
فمشهد محاولة اغتيال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على الهواء مباشرةً، غير المألوف ولو كان مسبوقًا في تاريخ الولايات المتحدة، خطف كلّ الأضواء، تمامًا كما أطلق العنان للتحليلات والتفسيرات وربما الاستنتاجات، ليس فقط ربطًا بانعكاساتها المحتملة على مستوى الاستحقاق الانتخابي “الحامي” في أميركا، والذي يبدو أنّه أضحى “دمويًا”، وسط مخاوف كانت موجودة أصلاً من أن تكون البلاد ذاهبة نحو اقتتال أهلي داخلي.
إلا أنّ المشهد الصادم إلى حدّ بعيد، والمباغت ربما، أثار أيضًا علامات استفهام بالجملة عن تداعيات محتملة خارج الولايات المتحدة، على مستوى العالم، بعيدًا عن “الجدل” الذي أثاره حول حقيقة ما حصل، والدوافع خلف الاستهداف، فهل تؤشر محاولة الاغتيال إلى دخول الولايات المتحدة “نفقًا” قد لا يكون الخروج منه بيسير، وما حقيقة القول إنّ ما جرى أميركيًا، يجهض عمليًا كلّ مشاريع التسويات، ويؤجلها لما بعد تشرين الثاني المقبل؟
أميركا.. إلى أين؟
لعلّ سؤال “إلى أين؟”، الذي ارتبط عضويًا برئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” السابق وليد جنبلاط، ينطبق على الحديث عن الوضع في الولايات المتحدة، التي تشهد أساسًا في هذه المرحلة استقطابًا حادًا يكاد يكون غير مسبوق، على خلفية الانتخابات الرئاسية المفترضة في غضون أشهر قليلة، والتي يخشى كثيرون أن تكون تداعياتها “مزلزلة” بمعزل عن نتيجتها، بما يستعيد سيناريو العام 2021، وحادثة اقتحام الكونغرس حينها.
في هذا السياق، ليس سرًا أنّ الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، وإن لم تبلغ حملاتها مرحلة “الذروة” بعد، في ظلّ انشغال العالم بأزمات المنطقة وحروبها، تنذر بحرب “داخلية” من نوع آخر قد تشغل الولايات المتحدة في القادم من الأيام، وهو ما تجلّى في مستوى “الخطاب” الذي رُصِد في المرحلة الأخيرة، وما بات يصطلح على وصفه بـ”الأزمة الوجودية” للحزب الديمقراطي، الذي يشهد انقسامًا على خلفية ترشيح الرئيس جو بايدن.
وسط هذا المشهد غير المريح، بالحدّ الأدنى، جاءت محاولة اغتيال الرئيس السابق دونالد ترامب، ومنافس بايدن على الرئاسة مجدّدًا، لتقرع جرس الإنذار، من أن تكون الولايات المتحدة فعلاً ذاهبة نحو سيناريو “الحرب الأهلية”، وهو ما عزّزته الهواجس من ألا يكون ما جرى “يتيمًا أو معزولاً”، باعتبار أنّه قد يتكرّر في المرحلة المقبلة الفاصلة عن موعد الانتخابات الرئاسية، ولا سيما أنّ من شأنه تأجيج العنف في الداخل الأميركي، ورفع مستوى الحماوة أكثر وأكثر.
أبعد من أميركا
وإذا كان البعض قد يرى في هذه السيناريوهات بعض “المبالغة”، رغم تجربة 2021 غير المبشّرة، فيما يدعو البعض الآخر إلى انتظار نضوج الصورة بالحدّ الأدنى، ثمّة من يذهب لحدّ إقحام “نظرية المؤامرة” وسط المشهد الملبّد، وهو ما تجلى بالحديث عن “هجوم مفبرك” رغم صورة الدماء، في مقابل تأكيد على أنّ ما جرى لم يخدم ترامب فحسب، بل أضعف بايدن أكثر، وهو الذي يجاهد منذ المناظرة الرئاسية للتظاهر بقوة لا يبدو أنه يملكها.
إلا أنّ الثابت، وفق ما يقول العارفون، أنّه وبمُعزَل عن تداعيات الهجوم على ترامب أميركيًا، وبانتظار نتائج التحقيق الذي بدأ بشأن ما جرى، بعيدًا عن التشخيص السريع بأنه محاولة اغتيال، يبقى أنّ الانعكاسات لن تكون محصورة بالولايات المتحدة، بل ستشمل العالم بأسره، والمنطقة من ضمنه، وهي التي تتأثّر عادةً بكلّ تطورات الإقليم، فكيف بالحريّ بما تشهده الدولة التي يقول البعض إنّها التي تقود العالم اليوم، من أقصاه إلى أقصاه.
تتفاوت وجهات النظر هنا، فهناك من يعتبر أنّ ما حصل سيؤدي إلى “التهاء” الولايات المتحدة باستحقاقها الداخلي، ما سيؤدي إلى “تجميد” كل ما كانت قد بدأته من اتصالات وترتيبات، على خط الحرب على غزة والتسوية في جنوب لبنان، وهناك من يعتقد أنّ إدارة الرئيس جو بايدن ستصبح “أكثر تشدّدًا”، في محاولة لتعويض ما خسرته في محاولة الاغتيال، وبين الرأيين من يجزم بأنّ حبس الأنفاس قد بدأ عمليًا، ولن ينتهي عمّا قريب.
في التعليقات والاستنتاجات، يرى كثيرون أنّ صورة دونالد ترامب بعد إطلاق النار عليه، وهو يحيّي الجموع رغم كلّ شيء، ستحفر في الذاكرة، وثمّة من يعتبر أن هذه الصورة حسمت السباق نحو البيت الأبيض عمليًا، وأعطت ترامب الأفضلية والأسبقية. لكن الأكيد أنّ ما بعد محاولة الاغتيال ستصبح كل السيناريوهات مفتوحة على مصراعيها، فالأمر لم يعد مجرد مبارزة انتخابية عادية، وأبعاده لن تكون محصورة لا في الزمان ولا المكان!