لهذه الأسباب كانت استقالة ظريف

16 أغسطس 2024
لهذه الأسباب كانت استقالة ظريف

ربما تكون استقالة نائب الرئيس الايراني للشؤون الاستراتيجية محمد جواد ظريف أولى بداية المواجهات التي يراهن خصوم ايران على حصولها بين المحافظين والإصلاحيين بعد تولي الأخيرين رئاسة الجمهورية ممثلين بشخصية مسعود بزشكيان الذي اتى اليها من بوابة عضويته في مجلس الشورى الاسلامي( مجلس النواب)، لكن بزشكيان الذي يبدو انه ذو طبيعة هادئة، وهو طبيب في الاساس، لا يوحي بأنه شخصية إصلاحية بمقدار ما يوحي بأنه يقف في الوسط بين التيارين الإصلاحي والمحافظ، لكن عواطفه تبدو محافظة أكثر مما هي إصلاحية، ربما لعلاقته المتينة مع المرشد الأعلى للثورة السيد علي خامنئي. والعارفون بالشأن الإيراني من إيرانيين وغيرهم، يقولون آن محاولة الإصلاحيين الاستحواذ على حكومة بزشكيان عبر التشكيلة التي اعدها ظريف بناء على تكليف منه باءت بالفشل لتشكل لهم صدمة ربما تنسحب لاحقا على محاولات اخرى سيقومون بها لاعتقادهم ان المرحلة هي مرحلتهم وانه لو لم يكن المرشد راغبا بشدة في ان يكون الرئيس اصلاحيا في هذه المرحلة لما تمكن بزشكيان من الفوز اصلا، ولكان انتُخب رئيس محافظ يشكل امتدادا لولاية الرئيس الراحل ابراهيم رئيسي الذي قضي بتحطم طائرته المروحية في ايار الماضي فيما كان عائدا من محافظة اذربيجان بعد افتتاحه سدا مائيا مشتركا بين ايران ودولة اذربيجان.

 

فقد لجأ ظريف الى الاستقالة على اثر تجاهل بزشكيان التشكيلة الوزارية التي اعدها خلال المرحلة الانتقالية التي كان كلفه رئاستها اثر انتخابه رئيسا للجمهورية في مطلع تموز الفائت وبادر الى الى اعداد تشكيلة جديدة جعلها “حكومة وفاق وطني” بحيث ضمت إصلاحيين ومحافظين وما بينهما ورفعها إلى مجلس الشورى الإسلامي تمهيد لمناقشتها تعديلها إذا كان هناك من موجب بالتعديل ومنحها الثقة لتبدأ مهماتها الدستورية.

 

مفاجئة في التوقيت

 

والذين يعرفون الواقع السياسي الإيراني يقولون أن استقالة ظريف لم تفاجئهم في الشكل والمضمون إنما فوجئوا بتوقيتها الذي جاء في عز الانشغال الإيراني بإعداد الرد الانتقامي ضد إسرائيل ثأرا لرئيس حركة “حماس” اسماعيل هنية الذي اغتالته في طهران قبل اكثر من أسبوعين. وقال هؤلاء ان هذه الاستقالة تطرح علامات استفهام كثيرة على مستقبل الوضع السياسي الإيراني في ظل عهد بزشكيان بدليل ان البعض بدأ يتهم الرجل بـ”الخضوع لاملاءات” الحرس الثوري الايراني (الباسداران) كذلك الخضوع لاملاءات “الرهبر”(القائد”) خامنئي.

 

والواقع، يقول هؤلاء العارفون بالشأن الايراني ان اغتيال هنية في يوم التنصيب شكل صفعة له وللدولة الايرانية بكل اجهزتها الامنية والعسكرية اثرث سلبا على هيبة النظام وقدراته الردعية على مستوى المواجهة القائمة بين طهران وتل ابيب ، لكن استقالة ظريف شكلت بالمعنى السياسي صفعة للتيار الاصلاحي في مطلع عهده الرئاسي لأن هذه الاستقالة بدت وكأنها اقالة كونها حصلت اثر عدم اخذ بزشكيان بالتشكلية الوزارية التي قدمها له ظريف، ولم يصدق احد مضمون البيان الذي اصدره الاخير حول استقالته من انها طبيعية بعد ان انجز المهمة التي اوكلها الرئيس اليه.

 

وهنا يكشف مصدر قريب من طهران ان بزشكيان كان ترشح للرئاسة ضمن لائحة اصلاحية من ثلاثة مرشحين ضمته الى عباس اخوندي واسحق جهانغيري فقدموا طلبات ترشيحهم لمجلس صيانة الدستور فرفضها جميعا ما اثار حفيظة الاصلاحيين قبل ان يهدأوا لاحقا عندما تدخل السيد خامنئي لدى جلس صيانة الدستور فعاود درس طلبات المرشحين الاصلاحيين الثلاثة ويقبل منها ترشيح بزشكيان، فإنبرى ظريف على الاثر الى ادارة حملته الانتخابية، الى ان شارك معها في مناظرة انتخابية حيث انه بحسب القوانين الإيرانية يحق للمرشح الرئاسي الاستعانة بمعاونين له يشاركانه في المناظرة وقد تحدث ظريف خلال هذه المناظرة لمدة 6 دقائق كانت كافية لاحداث ضجة في الوسط السياسي وفي الشارع الايراني، اذ قال أن إيران كانت أيام حكومة رئيس السابق حسن روحاني التي كان وزيرا للخارجية فيها تصدر 1,200,000 برميل من النفط يوميا ولكن هذا الرقم ارتفع إلى 3,000,000 برميل ايام رئاسة الرئيس الراحل السيد إبراهيم رئيسي وحكومته، واشار ظريف الى ان هذا الرقم ما كان ليصل الى هذا الحجم لو لم يكن في الأمر “غض نظر” او “اتفاق ضمني” مع الرئيس الأميركي جو بايدن في ظل المفاوضات مستمرة بين الجانبين عبر سلطنة عمان وغيرها. واذ اعتبرت المصادر القريبة من طهران ان ظريف اراد مما قاله ان يصيب من المحافظين ومرشحهم سعيد جليلي مقتلاً باظهارهم “متورطين بتوافق سري” مع الادارة الاميركية خصوصا وانهم لا يخفون تأييدهم بقاء الديموقراطيين في الرئاسة الاميركية لولاية جديدة.

 

ولكن في المقابل لم يجد المحافظون في كلام ظريف اتهاما لهم بل اعتراف “اصلاحي” بحصول حركة اقتصادية نشطة ايام رئيسي كان طبيعيا ان تتمكن ايران من خلالها من زيادة صادراتها النفطية بعيدا من اي تغاض اميركي أو تراخ في تطبيق العقوبات الاميركية والدولية المفروضة، وذلك وفق خطة ايرانية فرضتها متطلبات الدول التي تستورد النفط الايراني وعلى رأسها الصين، وبالتالي فان هذا الامر يسجل ايجابا لعهد الرئيس الراحل في انه نجح في تنفيذ خطوات تدعم الاقتصادي الإيراني على رغم من الحصار والعقوبات.
وفي الوقت الذي تفاعل كلام ظريف في الشارع الايراني وكاد يحدث فعلا وفعلا مضاد، فان ما اثار استياء بزشكيان منه هو ما بلغه عنه من أنه بدأ يتحدث في اوساطه الخاصة وامام العامة ويتصرف على اساس أنه هو من صنعه رئيسا، فسارع بزشكيان الى رفضه التشكيلة الوزارية التي قدمها ظريف فبادر الاخير الى الاستقالة، فيما ذهب بزشكيان الى خيار حكومة الوفاق الوطني لاعتقاده ان المرحلة التي تمر بها ايران والمنطقة لا تتحمل ان يحكم البلاد ويديرها فريق سياسي واحد وانما على الاصلاحيين والمحافظين وغيرهم التعاون جميعا في اطار هذه الحكومة الوفاقية وتحمل المسوؤلية في هذه المرحلة.

 

عقلية 1979

 

على ان المصادر القريبة من طهران تقول ان كل من يفكر أن بزشكيان هو رجل إصلاحي يكون مخطئا، أولاً لأن المعروف في ايران قولا وممارسة هو أن الإصلاحيين والمحافظين وحتى المستقلين هم من أبناء الثورة يختلفون على الاسلوب ولكنهم لا يختلفون على مصلحة البلاد وهذه هي حالهم منذ انتصار الثورة على نظام الشاه محمد رضا بهلوي عام 1979.

 

وفي هذا السياق تلفت هذه المصادر الى ان الرئيس الإيراني الراحل علي أكبر هاشمي رفسنجاني يقول في مذكراته عن بزشكيان أنه “ما زال يعيش في عقلية 1979 العام الذي انتصرت فيه الثورة” . ما يدل الى أن هذا الرجل هو ممن يتمسكون بمبادئ الثورة ويعيشونها ولا يساومون عليها. كما أنه وخلال الحملات الانتخابية تعهد بأنه سيعمل “على اساس مبادىء الثورة وتوجيهات الولي الفقيه”، اي المرشد خامنئي، ويبدو ان هذا الامر هو الذي دفع مجلس صيانة الدستور الى اعادة درس طلب ترشيحه للرئاسة والموافقة عليه.

 

وتقول المصادر ان تصرف ظريف بعد فوز بزشكيان على انه “رئيس الظل” او انه سيكون كذلك طوال ولايته، زاد من نفوره منه. كما ان هناك اسبابا اخرى ادت الى نفور القيادة الايرانية من ظريف ومنها انه ايام توليه وزارة الخارجية في حكومة الرئيس حسن روحاني قدم استقالته يوما احتجاجا على ترتيب قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني زيارة سرية للرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران من دون ان ينسق في شأنها مع وزارة الخارجية”. كذلك أُخذ عليه على اثر إغتيال سليماني في بغداد عندما قوله “أن سليماني كان يصادر صلاحياتنا”، الأمر الذي أثار حملة في الشارع الإيراني ضده لما يشكله سليماني في وجدان الإيرانيين. ويومذاك صدر عن خامنئي الى المعنيين توجيه يقضي بإستبعاد “اي شخص له ميول غربية” عن اي موقع مسؤول في الدولة، وهو ما اعتبره ظريف موجها ضده، فالرجل درس وعمل سابقاً في الولايات المتحدة ولديه ابناء ولدوا هناك ويحملون الجنسية الاميركية. وعندما استقال من منصب نائب الرئيس اخيرا اصدر بيانا برر فيه هذه الاستقالة بأنه “انهى المهمة” التي كلفه اياها رئيس الجمهورية وبالتالي بات عليه الاستقالة مؤكدا انه لا يريد ان يتولى اي منصب وسيعود الى وظيفة التدريس في جامعة طهران وانه يتمنى للرئيس النجاح في مهماته.

الاعتراض على الرد

 

على ان ما لم يعلن ايضا من اسباب استقالة ظريف أو إقالته هو اعتراضه في الاونة الاخيرة على القرار بالرد على اغتيال هنية والذي اعتبره المرشد “الثار الواجب”، حيث نقل عن نظريف قوله في هذا الصدد أن “ليس على إيران أن تخوض حربا بالنيابة عن الآخرين”. الامر الذي اعتبر اعتراضا على مشيئة “السيد القائد”….

 

والى ذلك سرّب ظريف أو سُرِّب له على مواقع التواصل اجتماعي تسجيل فيدو يتحدث فيه هو في إحدى المناسبات يعارض فيه سياسة إيران إزاء القضية الفلسطينية وقال فيه حرفيا وبالصوت والصورة: “ان الشعب الإيراني سئم من سياسة حكومتنا التي تحاول أن تكون فلسطينية اكثر من الفلسطينيين أنفسهم. لقد سئم الايرانيون من هذا”. واستطرد سائلاً: “ما هو الحل؟” ثم اجاب: “الحل ليس في نسيان حق المظلومين، الحل ليس في استبدال الظالم، الحل هو أن إيران كما ورد في دستورها يجب أن تدافع عن المظلومين ولكن لا ينبغي ان نقاتل نيابة عنهم، بل يجب أن ندافع عنهم وندعمهم. لدينا طريقتان في السياسة الخارجية، الأولى هي التأثير، والثانية هي الحضور، الحضور هو عكس التأثير، يجب على شعبنا أن يقبل أنه إذا أردنا تحقيق العدالة فيجب علينا الدفاع عن العدالة، لكن الدفاع عن العدالة لا يعني نشر الجيش. في الوقت الحالي أفضل دفاع للشعب الفلسطيني هو عدم السماح لاسرائيل بالنجاح في هذه اللعبة حيث تزعم أن هؤلاء الناس خدم للأجانب وإنهم وكلاء. إسرائيل تبحث حاليا عن شريان حياة. انظر إلى خطاب السيد بلينكن في مجلس الأمن التابع للامم المتحدة حيث أعلن “نحن و”حزب الله” بوضوح أننا لسنا متورطين، حتى حسن نصرالله قد نأى بنفسه عن حماس”.

 

على الارجح، يقول القريبون من ايران ان ظريف خرج او اخرج من الحياة السياسية الايرانية ليعود استاذا مدرسا في الجامعة، نافيا وجود اي خلاف بينه وبين الرئيس الجمهورية ومؤكدا انه سيستمر في دعمه. لكن يبدو ان افكاره الليبرالية قد تتسبب له بمتاعب سياسية مع النظام لاحقا.