لقد بدت حادثة “كارين إيه” بحيثياتها ومعانيها وغاياتها فرصة لرئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون لضم عرفات مجددا إلى قوائم الاغتيال، إذ لم يعد الرجل مناسبا للمرحلة وفق تقديره.
تشير الوقائع إلى أن السفينة “كارين إيه” -بحمولة 50 طنا من الأسلحة- كانت الدافع الأساسي الذي جعل شارون يقرر تصفية عرفات، فالعملية الفلسطينية المعقدة لإيصال تلك الشحنة آنذاك إلى غزة، ونقل جزءٍ منها إلى الضفة الغربية، وفق التقديرات الإسرائيلية، كشفت عن مسعى عرفات لتغيير وجه الانتفاضة وتطوير قوّتها ورفع زخمها، وهو ما كان يعني لإسرائيل تغيير الوقائع على الأرض.
بالنسبة إلى شارون، كان “الختيار” الذي يسلح شعبه ويجهز لمقاومة قد استنفد أسباب بقائه، وكانت الولايات المتحدة مترددة في منح إسرائيل الضوء الأخضر لتصفية الرجل الذي فتح أبواب سلام، حرصت إسرائيل دائما على إغلاقها.
أعاد شارون للرئيس الأميركي جورج بوش الابن (2001-2009) في نيسان 2001 طرح فكرة اغتيال عرفات، رفض الأخير ذلك قائلا: “دع الأمر للرب”، فرد شارون: “حسنا، حتى الرب يحتاج من يساعده”، ولم يعقّب الرئيس الأميركي، وفق ما ورد في كتاب “أرييل شارون.. محادثات ودّية مع أوري دان” الصادر عام 2006 للصحفي الإسرائيلي أوري دان.
أضمر شارون مخطط اغتيال عرفات ببطء، وهو محاصر في مقر السلطة برام الله من دون إثارة أي شبهات ودون ترك أي بصمات، وفق ما تحدث عنه أيضا الصحفي الإسرائيلي رونين بيرغمان في كتابه “انهض واقتل أولا.. التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية المستهدفة” الصادر عام 2018.
من جهته، يؤكد بسام أبو شريف مستشار الرئيس الراحل في كتابه “السمك المالح” (دار بيسان الطبعة الأولى 2021) أن شارون قرر تصفية عرفات عام 2000 متجاوزا التعليمات الأميركية، وأشار إلى أنه حاول تحذير عرفات من خطة شارو لاغتياله “بطريقة خبيثة ومتخفية وخسيسة”.
ويقول أبو شريف في الصفحة 433 من الكتاب: “كنت متأكدا بأن معلوماتي حول محاولات كانت ستجري لاغتياله بواسطة السم صحيحة، ومثلما حاول البعض ثنيه عن قراره الخروج من فلسطين منعا لاغتياله، فهؤلاء عملوا على تهميش المعلومات التي أرسلتها إليه والتي وصلتني من مخبرين في واشنطن بأن السم سيتم دسه له في طعامه أو شرابه. وقد أكد لي طبيبه شريف الكردي (رحمه الله) بأن عرفات مات مسموما”.
البندقية وغصن الزيتون
كان الرئيس الراحل ياسر عرفات يسعى لإعطاء الانتفاضة (2000-2005) زخما أكبر وأقوى في وجه العنجهية الإسرائيلية عبر تسليحها.
ويذكر رئيس حركة حماس الراحل يحيى السنوار عملية السفينة “كارين إيه” في هذا السياق بقوله في خطاب في أيار 2021: “التحية، كل التحية، للقائد أبو عمار.. لقد قضيت وأنت تحاول تعزيز قدرات شعبنا القتالية بعد كارين إيه.. فذهب إلى خيار جلب السلاح ليحدث شيئا من النقلة في موازين القوى بيننا وبين الاحتلال. نم قرير العين يا أبا عمار أنت وكل الشهداء..”
أدرك الرئيس الراحل منذ بداية الانتفاضة أن ما لديه من سلاح لا يترك له حيزا للمناورة عسكريا وسياسيا أمام قوة البطش الصهيونية في ردع الانتفاضة، واعتبر أن تنظيم ملف التسليح يمنحه ورقة إضافية لدعم الانتفاضة والتحكم بمسارها، ويعطيه أيضا وزنا مقابل الفصائل الأخرى المشاركة في الانتفاضة ميدانيا.
وتبعا لذلك سعى “أبو عمار” إلى تكوين شبكة تضم قيادات في الأجهزة الأمنية للسلطة، تكون مهمتها شراء السلاح وإيصاله إلى الأراضي المحتلة. وبعد حادثة “كارين إيه” كشفت الحكومة الإسرائيلية عن أسماء عدد منهم، واتهمتهم بعقد صفقات سلاح والتواصل مع إيران وحزب الله، وجلب السلاح وتهريبه إلى غزة. كذلك، حققت السلطة الفلسطينية في القضية وأصدرت أحكاما بالسجن بعد ضغوط أميركية ودولية.
كان على رأس تلك الشبكة كل من اللواء فؤاد الشوبكي، وعادل المغربي المسؤول عن المشتريات في السلطة، وجمعة غالي قائد سلاح البحرية في السلطة ومساعده فتحي عازم، بالإضافة إلى المسؤول المباشر عن شراء الأسلحة الضابط في سلاح البحرية وقبطان السفينة “كارين إيه” عمر عكاوي، الذي يقضي عامه الـ23 في معتقلات الاحتلال.
ولم تكن “كارين إيه” عملية مفردة، فعمليات جلب الأسلحة -التي كانت في معظمها خفيفة- كانت تتم عبر الطرق البرية بسيارات الشحن من الأردن ومصر والحدود السورية اللبنانية إلى هضبة الجولان ثم الأراضي الفلسطينية، واتخذت لاحقا طرقا عبر البحر، وقد أعلنت إسرائيل اكتشاف عدة محاولات تهريب.
كانت بدايات الكشف عن عمليات تهريب السلاح عبر الحادثة التي عُرفت آنذاك باسم “حادثة البراميل” منتصف عام 2001 قرب سواحل غزة، والتي كان من مفاعيلها اغتيال كل من الرائد مسعود عياد، وجهاد أحمد جبريل في لبنان.
وأعلنت إسرائيل أيضا في أيار 2000 السيطرة على قارب الصيد “سنتوريني” قبالة ساحل مدينة صيدا اللبنانية، لكن سفينة “كارين إيه” بدت نقلة نوعية في نوع الأسلحة وكميتها، وهو ما اعتبرته السلطات الإسرائيلية مساعي من الرئيس عرفات لفرض وقائع جديدة على الأرض.
رصد “المغنية”
وفقا للمعلومات التي نشرتها الصحف الإسرائيلية، كانت الاستخبارات العسكرية (أمان) قد التقطت أوائل عام 2001 أولى المعلومات اللافتة عن سفينة تبحر من بلغاريا إلى الخليج العربي من دون أي حمولة على متنها، إذ اشتبهت في أن رحلة طويلة كهذه خاسرة تجاريا بالنسبة لأي شركة تعد مريبة، وهو ما اقتضى عملية رصد ومتابعة لسير السفينة، التي أطلق عليها الاسم الكودي “المغنية”.
كان اسم السفينة، قبل شرائها في تشرين الأول 2001، “ريم كيه” وهي سفينة مسجلة في مدينة بيرايوس اليونانية، باسم شخص عراقي ورقم جواز سفر وصندوق بريد يقع في العاصمة اليمنية صنعاء. وبعد شرائها، تحول اسمها إلى “كارين إيه”، ومسجلة في “نوكو ألوفا”، عاصمة مملكة تونغا، الدولة الواقعة في المحيط الهادي.
توصلت “أمان” أيضا إلى أن عملية شراء السفينة “ريم كيه” -التي يبلغ طولها 96 مترا وعرضها 14 مترا- قد تمت من شركة في لبنان أواخر آب 2001 لفائدة شخص فلسطيني يدعى عادل مغربي (يعرف أيضا باسم عادل سلامة)، وأبحرت من هناك في رحلة تمويهية حاملة شحنة مواد غذائية عبر موانئ عدة، بينها اليمن، ودبي والسودان، حيث صعد على متنها الطاقم الفلسطيني، ثم توجهت إلى إيران.
كان عادل مغربي (عضو حركة فتح) يتولى التنسيق مع حزب الله وإيران للحصول على الأسلحة لفائدة السلطة الفلسطينية، وشملت مهامه شراء السفينة وتشكيل طاقم الإبحار والتخطيط بشأن كيفية تخزين الأسلحة وإخفائها وتحميل الأسلحة إلى السفن ونقلها إلى حين تسليمها في شواطئ غزة.
يوم 11 كانون الأول 2001، وصلت السفينة إلى مرفأ “كيش” في إيران، ومن هناك حُمّلت بشحنة الأسلحة المعبأة في حاويات خاصة قابلة للتعويم، ومن ثم أبحرت باتجاه البحر الأحمر، حيث كان من المفترض أن تعبر قناة السويس وتفرغ حمولتها (الحاويات العائمة) قبالة سواحل قطاع غزة ليتم التقاطها من البحرية الفلسطينية.
لكن الوحدة البحرية “شايطيت 13” الإسرائيلية نفذت إنزالاً على ظهر السفينة في الثالث من كانون الثاني 2002 في موقعها على بعد 500 كيلومتر من خليج العقبة، واقتادتها إلى ميناء إيلات (أم الرشراش).
وأضفى الإعلام الإسرائيل هالة من البطولة على العملية التي سموها “سفينة نوح”، والتي أدت إلى مصادرة شحنة الأسلحة التي شملت صواريخ “كاتيوشا”، وقاذفات “آر بي جي”، ومدافع وقذائف هاون، وألغاما أرضية، وصواريخ مضادّة للدروع من نوع “ساغر”، ورشاشات كلاشينكوف، بالإضافة إلى معدات غوص حديثة.
وأوقفت البحرية الإسرائيلية أيضاً 12 فرداً من طاقم السفينة، من بينهم قبطانها اللواء عمر عكاوي، بالإضافة إلى 3 آخرين من عناصر الشرطة البحرية الفلسطينية، و8 بحارة مصريين تم إطلاق سراحهم لاحقاً لعدم ضلوعهم في العملية.
ورغم الادعاءات الإسرائيلية المبالغ فيها، فإن تقرير لصحيفة “يديعوت أحرنوت” الإسرائيلية يظهر أن الولايات المتحدة ساعدت الإسرائيليين بشكل كبير في العملية، منذ مرحلة البحث عن السفينة، وصولا إلى الحصول على مخططاتها ثم تحديد مسارها.
كذلك، يشير الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) عاموس غلبوع في كتابه “حدث درامي في البحر الأحمر” الصادر عام 2017 إلى المساهمة الفعالة للأجهزة الاستخبارية الأميركية، من خلال الأقمار الصناعية، في متابعة السفينة ورصد خط سيرها وجمع المعلومات الاستخبارية عنها، وتوقع مكان وزمان وصولها.
بشكل ما، كانت المبالغة الإسرائيلية في تصوير عملية قرصنة “كارين إيه” في عرض البحر الأحمر محاولة لإعادة الاعتبار لوحدة الكوماندوس البحري “شايطيت 13” التي منيت بإخفاق كارثي في كمين “أنصارية” في أيلول 1997، الذي نفذه مقاتلو حزب الله، وقتل فيه 12 من جنود وضباط الوحدة.
استهداف عرفات
استغل أرييل شارون حادثة السفينة “كارين إيه” لتكثيف الضغوط على الرئيس ياسر عرفات وإضعافه سياسيا، وتشويه صورته لدى الإدارة الأميركية، في وقت كانت فيه علاقته متوترة أصلا مع واشنطن بعد رفض تقديم أي تنازلات، وركزت إسرائيل على تعاونه في جلب السلاح مع إيران وحزب الله لإثارة الولايات المتحدة ضده.
تعهد عرفات بإجراء تحقيقات في قضية السفينة بعد ضغوط أميركية ودولية، وتم تحميل العميد فؤاد الشوبكي المسؤولية العلنية، لكنه رفض تسليمه إلى أجهزة الأمن الإسرائيلية، وأبقاه في مقر المقاطعة برام الله في أثناء عملية “السور الواقي”، قبل أن يتم نقله إلى سجن أريحا تحت حراسة أميركية وبريطانيّة، لكن إسرائيل عمدت إلى اختطافه عام 2006 واعتقاله حيث قضى 17 سنة متنقلا بين سجونها.
وشكّلت التحولات الدولية والتغيرات في مجرى الانتفاضة على الأرض بعد “كارين إيه”، إذ بلغ عدد القتلى الإسرائيليين 133 خلال آذار 2002، دافعا لحكومة شارون للإقدام على اجتياح بري للضفة الغربية في عملية “السور الواقي”، وفرض حصار على عرفات في مقر إقامته في المقاطعة برام الله.
أراد أرييل شارون تغيير وجه القضية الفلسطينية ووأد الانتفاضة بتصفية رموزها، وقادتها، وجاءت وفاة الرئيس ياسر عرفات يوم 11 تشرين الثاني 2004 لاحقة لاغتيال مؤسس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين يوم 22 آذار 2004، ثم عبد العزيز الرنتيسي أحد مؤسّسي الحركة يوم 17 أبريل/نيسان 2004.
تشير معطيات كثيرة إلى أن حصار الرئيس الراحل ياسر عرفات بالمقاطعة في رام الله كان تمهيدا لتصفيته سياسيا ثم جسديا، لم تعترف إسرائيل باغتياله -ولم تفعل مع كل عمليات الاغتيال- لكن صراعه المفاجئ مع مرض غامض ناجم عن سم أو مادة إشعاعية كان يحمل بصمات شارون، الذي وجد في “كارين إيه”، بما تحمله من دلالات ورسائل، الفرصة لتصفية الرجل الذي طالما طارده سابقا من بيروت إلى قبرص وتونس دون جدوى. (الجزيرة نت)