ما اشبه اليوم بالبارحة.. تماما كما كانت الحال إثر صدور القرار الدولي 1701 الذي اوقف حرب تموز 2006 ترتكب إسرائيل في هذه الايام الخروقات نفسها لهذا القرار وتعطل تنفيذه مجددا مثلما عطلته بخروقاتها منذ صدوره وعلى مدى 18 عاما إلى إن كانت حرب أيلول الأخيرة التي انتهت في 27 تشرين الثاني المنصرم باتفاق على وقف اطلاق النار ووضع آلية لتنفيذه.
فما ان صدر القرار الدولي عام 2006 لم تنتظر إسرائيل لحظة حتى باشرت بخرقه مع أنه لم يتضمن نصحا صريحا بـ”وقف اطلاق النار” وإنما “وقف الأعمال الحربية”. يومها لم تقبل إسرائيل بأن يكون النص وقفا لإطلاق النار وإنما تمسكت بتعبير “وقف الاعمال الحربية” لغاية في نفس يعقوب. ولكن الحال الآن انه تم اعلان اتفاق مكتوب على وقف إطلاق النار بضمان الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا مشفوعا بـ”تطمينات” اميركية لإسرائيل التي سمتها “ضمانات” وليس “تطمينات”.
ولكن إسرائيل خرقت الاتفاق على وقف النار هذا منذ اللحظة الأولى صدوره وهي مستمرة في هذا الخرق برا وبحرا وجوا مبررة اياه بأن حزب الله هو الذي يخرقه مع العلم أن الاتفاق قضى بأن يشكو أي فريق ما يراه خرقا للإتفاق إلى اللجنة الخماسية المكلفة تنفييذه والتي تضم الولايات المتحدة وفرنسا ولبنان وإسرائيل وقيادة القوات الدولية (“اليونيفيل”) وعندما رد حزب الله رمزيا على 54 خرقا اسرائيليا لوقف النار سجلهم لبنان منذ صدور القرار في محاولة منه لوقف هذه الخروقات المتمادية صعدت اسرائيل بقصف عدد من المناطق وارتكبت مجزرة في بلدة طلوسة الحدودية سقطت فيها 11 شهيدا وراحت تبررها بالرد على “خرق” ارتكبه الحزب. وكادت ان تعاود قصف بيروت لولا “ضغوط” اميركية مورست عليها.
ومع أن لبنان أدخل قوات من الجيش لتعزيز القوة المنتشرة أساسا في جنوب نهر الليطاني منذ العام 2006 لم تأبه إسرائيل للأمر وها هي تستمر في قصف مناطق شمال الليطاني بذريعة أن حزب الله يقوم بأعمال تخرق الاتفاق إلى درجة ان المواطنين الذين يعودون إلى بلداتهم وقراهم لتفقد منازلهم وممتلكاتهم صاروا في نظرها عناصر من حزب الله يقومون بأعمال عسكرية، حسب زعمها. وعندما رد حزب الله على خروقاتها المتمادية بصاروخين على موقع في مزارع شبعا اقامت الدنيا ولم تقعدها واتهمته بخرق الاتفاق في وقت لم تسأل نفسها عن خروقاتها وكأنها نصبت نفسها الحامي والوصي على تنفيذه.
لكن حقيقة النيات الإسرائيلية سرعان ما انكشفت على لسان رئيس الحكومة بنيامبن نتنياهو الذي قال بعد يومين على اعلان الاتفاق: “انا لم اقل بوقف الحرب وانما قلت وقف إطلاق النار الذي قد يكون قصيرا جدا”.
وهذا التصرف الإسرائيلي الخارق لاتفاق وقف النار وتاليا للقرار 1701 ترده أوساط قريبة من المرجعيات التي هندست الاتفاق إلى أحد امرين لا ثالث لهما:
ـ الأول أن نتنياهو خضع فعلا لضغوط أميركية ـ غربية أجبرته على القبول بوقف الحرب على مضض لانه يريد الاستمرار فيها طامحا الى ما سماه “تغيير وجه الشرق الاوسط”، وهذه الضغوط جاءت بعدما بلغ حجم التدمير والابادات الجماعية في حق اللبنانيين مبلغا لا يمكن السكوت عنه في الوقت الذي فشل في تحقيق أهدافه من هذه الحرب بالقضاء على حزب الله.
ـ الثاني ان نتنياهو يريد من استمرار التصعيد والخرق افهام المستوطنين النازحين من المستوطنات الشمالية انه يريد ان يضمن ابتعاد مقاتلي حزب الله الى الحدود اللبنانية الجنوبية بما يضمن امن المنطقة وعودة المستوطنين الذين مازالوا يرفضون العودة في الوقت الذي يجدون ان النازحين اللبنانيين يعودون الى بلداتهم في المنطقة على رغم الدمار الذي لحق بها.
ويقول متتبعون للموقف الاسرائيلي لـ”لبنان 24″ ان نتنياهو فقد صوابه بعد صدور المحكمة الجنائية الدولية باعتقاله ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت بتهمة الإبادة الجماعية للفلسطينيين في قطاع غزة ليجد نفسه بعد توقف الحرب أمام جملة من الحسابات يمكن تلخيصها بالأتي:
ـ الأول، المحاسبة على ملف الفساد الذي كان يلاحقه القضاء الإسرائيلي به قبل شنه الحرب على غزة والذي يهدده بالسجن.
ـ الثاني، المحاسبة على سوء تحمل المسؤولية بعد عملية “طوفان الأقصى” والفشل في الحرب على حركة “حماس” وأخواتها في قطاع غزة وعدم إطلاق جميع الأسرى الإسرائيليين لدى حماس .
ـ الثالث، الملاحقة امام المحكمة الجنائية الدولية له خصوصا وأن هناك أكثر من 120 دولة مشاركة في هذه المحكمة ولا بد من ان واحدة منها على الاقل قد تعتقله ان دخل اراضيها.
ـ الرابع، المحاسبة على الفشل في حرب على لبنان والتي هدف منها إلى القضاء على حزب الله والتي تخللها هجومان صاروخيان إيرانيان كبيران على اسرائيل التي اهتز معهما ومصيرها في ظل احتمال تعرضها لحرب شاملة قد تشنها أطراف “محور المقاومة” من كل حد وصوب، خصوصا اذا هاجمت المنشآت النووية الايرانية بما يهدد وجود الكيان الإسرائيلي برمته.
ـ الخامس، المحاسبة على الفشل في تحقيق هدفه الكبير وهو “تغيير وجه الشرق الأوسط” الذي يتحول شيئا فشيئا “تغييرالوجه إسرائيل” التي باتت منبوذة عالميا لولا استمرار الدعم الأميركي والغربي الذي ما زال يحفظ لها ماء الوجه الذي تلطخ بدماء اللبنانيين والفلسطينيين نتيجة استمرارها في الحرب بهدف اخضاع المنطقة لمشيئتها اذا استطاعت الى ذلك سبيلا.
وفي ضوء كل ما تقدم فإن هدنة الستين يوماً المنصوص عنها في اتفاق وقف النار، ستتحول هدنة دائمة ان توقفت اسرائيل عن الاستمرار في خرقها، وإلاّ لا شيء سيمنع عودة الحرب، خصوصا اذا اصر نتنياهو على المضي في مشروعه لاقامة “اسرائيل الكبرى” من النهر الى البحر، بعدما كان الرئيس الاميركي المنتخب دونالد ترامب وعد خلال حملته الانتخابية بتوسيع اسرائيل التي قال انه “لطالما وجدت مساحتها صغيرة وافكر كيف يمكن توسيعها”.