نشر موقع “الحرة” تقريراً جديداً تحت عنوان “مسيحيو العراق.. مهجرون من مدن تغيرت ملامحها”، وجاء فيه:
في أحد المقاهي الشعبية بمدينة زاخو، شمالي العراق، يجلس شمعون متأملا فنجان الشاي بين يديه، فمنذ 10 سنوات ترك مسقط رأسه، مدينة برطلة، ولم يعد إليها إلا في زيارات معدودة.
ورغم تحريرها من قبضة تنظيم داعش، لم يجد المدينة التي نشأ فيها كما كانت، ولم يشعر بأنها لا تزال موطنه.
شمعون، الذي وُلد وترعرع في برطلة ودرس فيها حتى أصبح معلما، اضطر إلى مغادرتها عام 2014 عندما اجتاحها داعش.
كان شمعون يأمل أن تعود المدينة إلى سابق عهدها بعد التحرير، لكنه وجدها قد تغيرت تماما. و”المدينة فقدت روحها وثقافتها”، يقول بأسى، مشيرا إلى أن معظم أصدقائه وأبناء مجتمعه المسيحي هاجروا ولم يبقَ فيها إلا من لم يكن لديه خيار آخر.
قبل اجتياح داعش، كانت برطلة تحتضن آلاف العائلات المسيحية، لكنها اليوم باتت، كما يصفها شمعون، “مدينة غريبة”، إذ استوطنتها جماعات تنتمي لفصائل مسلحة ترتبط بالحشد الشعبي، واشترت بيوت المسيحيين بأسعار زهيدة.
وهذا الأمر غير من تركيبتها السكانية، كما يقول شمعون، مضيفا أن الدخول إلى المدينة أصبح تجربة مريرة بسبب الحواجز الأمنية التي تفرض رقابة صارمة وتحدّ من حرية التنقل.
ولم يعد شمعون يرى مستقبلا له في برطلة، فقرر بيع منزله بثمن بخس لشراء بيت جديد في زاخو، حيث يقيم الآن مع عائلته، ويقول لموقع “الحرة”: “هنا على الأقل، أشعر بالأمان”، بعيدا عن النفوذ المتزايد للميليشيات التي باتت تفرض واقعا جديدا على مدينته القديمة.
معظم المسيحيين في العراق، يعيشون الآن إما في منطقة سهل نينوى أو في إقليم كردستان، بحسب، وحيدة ياقو، العضو السابق في برلمان إقليم كردستان عن المكون المسيحي.
تضيف ياقو لموقع “الحرة” أن المسيحيين في سهل نينوى تعرضوا لموجتين من الهجرة، الأولى حدثت قبل تنظيم داعش وشملت المسيحيين الذين كانوا يسكنون في بغداد وبقية المحافظات الجنوبية.
والهجرة الثانية كانت بعد مجيء تنظيم داعش حيث فرّ المسيحيون من محافظة نينوى ومناطق سهل نينوى باتجاه إقليم كردستان.
وتقع منطقة سهل نينوى (تضم اقضية الحمدانية وشيخان وتلكيف) بين نهري دجلة غربا والزاب الكبير شرقا، وتفصل ما بين إقليم كردستان ومحافظة نينوى.
أغلب تلك المناطق تندرج تحت “المناطق المتنازع عليها” المشمولة بالمادة 140 من الدستور العراقي، وقد لجأ اليها المسيحيون بعد الهجمات المكثفة التي تعرضوا لها من قبل جماعات إرهابية عام 2008 في بغداد وجنوب العراق، بحسب وحيدة ياقو.
وفاقم اجتياح داعش من معاناة وجراح المسيحيين في العراق، فهذا التنظيم الإرهابي سيطر على بلداتهم وممتلكاتهم، ودمر كنائسهم واخذ الجزية منهم.
وتضيف ياقوا أن داعش أجبر المسيحيين على النزوح باتجاه مدن إقليم كردستان، وهاجرت آلاف العائلات إلى خارج البلاد.
وبقي سهل نينوى خاليا من المسيحيين خلال فترة سيطرة تنظيم داعش، لكن بعد تحرير المنطقة، عادت 70 بالمئة من العائلات المسيحية إلى بلداتها، بحسب الناشط المدني روند بولص رئيس اتحاد الادباء السريان في العراق.
وفي حديث عبر “الحرة”، تقول بولص إنه لولا تدخل المنظمات المدنية والدعم الكنسي لإعمار تلك البلدات والكنائس التي هدمها داعش “لما عادت أي عائلة مسيحية الى مناطقها”.
لكن هذه المناطق حتى بعد تحريرها من سيطرة داعش إلا أنها مازالت تعاني من تحديات عديدة، أبرزها مدى ثقة المواطنين بالمليشيات التي سيطرت على سهل نينوى بعد طرد داعش”.
بولص أوضح أن وجود هذه المليشيات التابعة للحشد الشعبي، وتدخلها في شؤون تلك البلدات أجبر من جديد العديد من العائلات على ترك المنطقة “بعد أن باعت ممتلكاتها بأقل الأسعار”.
وتتمركز في منطقة سهل نينوى قوات مشتركة من الجيش العراقي والشرطة المحلية، إلى جانب لواءين للحشد الشعبي هما اللواء 30 المعروف بـ”قوات سهل نينوى” وهو لواء خاص بالشبك ومتمركز الان في قرية برطلة.
واللواء 50 المعروف بـ”كتائب بابليون” التابع لحركة بابليون بزعامة (ريان الكلداني)، المدرج على لائحة الإرهاب الأميركي، وتتمركز هذه الميليشيا قرب قرية باطنايا.
كذلك، توجد خلافات كبيرة بين “الكلداني” والقيادات المسيحية في العراق، بسبب ولائه لإيران.
مع هذا، يشكو المواطنون من وجود هذه الحشود العسكرية في مناطقهم، فلواء الشبك مثلا سيطر على معظم ممتلكات المسيحين في برطلة، كذلك الحال مع لواء “كتائب بابليون” الذي استحوذ على مناطق واسعة من ممتلكات المسيحيين.
ويتميز سهل نينوى بتنوع مكوناته، يعيش فيه المسيحيون والشبك والأيزيديون والكرد والعرب والصابئة المندائيون والكاكائيون، لكن النسبة الأكبر هم من المسيحيين.
وعاشت هذه المكونات مع بعضها في وئام طيلة الفترات السابقة بحسب وحيدة ياقو، موضحة أن المليشيات هي التي زرعت الفتنة بين أبناء هذه المكونات في سهل نينوى.
وتشتهر منطقة سهل نينوى بكونها سلة العراق الغذائية، لوقوعها بين نهرين. كذلك، توجد في سهل نينوى العديد من الاديرة والكنائس أكثرها تعرضت للدمار بسبب داعش، والمنطقة مازالت “منكوبة” وبحاجة إلى إعمار بحسب الباحث والأكاديمي السرياني إيفان جاني.
ويقول جاني لموقع “الحرة” إن هناك “فجوة عدم ثقة” بين أهالي سهل نينوى و”الشخصيات التي تمثل السلطات الإدارية والسياسية والأمنية المتحكمة هناك”.
وصار المسيحيون في هذه البلدات “أقلية” بعد أن كانوا يشكلون الأغلبية فيها، فبرطلة على سبيل المثال حدث فيها تغير ديمغرافي وأصبح الشبك هم الأغلبية على حساب المسيحيين.
ويعزو جاني سبب ذلك إلى “عدم وجود تمثيل حقيقي للمسيحين في مؤسسات الدولة” مشيرا إلى أن وجود الميليشيات المتسببة بتلك التجاوزات، “ستحول المنطقة إلى ساحة لتصفية الحسابات وستكون ضحيتها الأقليات الموجودة هناك” حسب تعبيره.
وأكد حدوث تجاوزات مستمرة على ممتلكات المسيحيين في أغلب مناطق سهل نينوى، وأن هذا “تسبب بتهجير 90 بالمئة من المسيحيين من العراق وبقاء 10 بالمئة فقط”.
وأوضح جاني أن ما يحد من هجرة المسيحيين من العراق، هي العقبات التي تضعها الدول الأوروبية امام المهاجرين، “فلولاها لخلى العراق من المسيحيين في فترة قياسية” بحسب تعبيره. (الحرة)