تقنين قاسٍ تعيشه المناطق اللبنانية كافة، بما فيها العاصمة التي حاول البعض تحييدها من الحرمان، لتكون نموذجاً جمالياً زائفاً عن سلطة رأس المال. ولكن الأقنعة انهارت. وتهاوت بفعل تراكم الانتكاسات، وصولاً إلى الظلام الذي شلَّ ما تبقّى من أنفاس أخيرة للحركة الاقتصادية، وعزَّزَ مقت الناس للنظام، حتى أؤلئك الذين يبايعون أسياده بفتاوى سياسية ومالية ودينية تستغلّ ضعف الناس وحاجتهم.
انفراجٌ موقّت
تعمل وزارة الطاقة على جلب بواخر نفط لتشغيل المعامل وتوليد الكهرباء. ثلاثة بواخر ستفرّغ حمولتها، آخرها تصل الأسبوع المقبل.
وأولى البواخر ستأتي ثمارها في مرحلة تتراوح بين أسبوع وعشرة أيام، يتراجع معها معدّل التقنين من ساعة إلى ساعتين يومياً. وهي مدّة غير كافية، ولا تتوافق مع الوعود التي خدعت الشعب منذ انتهاء الحرب الأهلية، ومنذ وضع خطة انقاذية للكهرباء في العام 2010. فالوعود في لبنان تطويها وعود حتى وصلنا إلى الوعد الكبير: الانهيار الشامل.
بواخر الفيول المنتظرة قد تنعش لبنان لفترة تمتد من شهرين إلى ثلاثة أشهر. بعدها يُعاد تكرار المأساة: تقنين إضافي، وشعب يرزح تحت واقعٍ يصعب تغييره بفعل تجذّر الأزمات، وإصرار على تكرار التجارب الفاشلة.
وإن كان التاريخ يكرر نفسه مرّتين، الأولى على شكل مأساة والثانية على شكل مهزلة، فإننا نعيش اليوم مأساةً ومهزلة في آن. فالمأساة هي تقنين متزايد للكهرباء، وإن وُعِدنا بانفراج موقّت. والمهزلة هي الإصرار على خداع الناس والمجتمع الدولي بالتغيير الشكليّ في واقع مؤسسة كهرباء لبنان، بعد تشكيل مجلس إدارة من أصدقاء مستشاري وزراء الطاقة التابعين لجهات سياسية من لون واحد. وهذا على اعتبار أن تغيير الصورة قد يُقنع صندوق النقد الدولي بتعديل نظرته السلبية للبنان.
لكن حتى وإن استكمل الصندوق جلساته مع لبنان لبحث “الإجراءات التي اتخذت والتي ستتخذها الحكومة اللبنانية في ما يتعلق بإصلاح قطاع الكهرباء وكيفية تطبيقها”، وفق ما عبّرت عنه وزارة المالية في إعلانها عن استئناف المفاوضات في الجلسة السابعة عشر مع الصندوق، إلاّ أن الأخير لم يحسم قراره النهائي في قضية مساعدة لبنان، لأن مطلبه هو بدء الإصلاحات، وتعيين مجلس إدارة إصلاحياً. ما يعني أن التفاوض مع الصندوق، هو تدبير موقّت، سرعان ما سيتوقّف أو يتعقّد سيره.
أزمة تخزين
تشكّل أزمة الفيول عقبة رئيسية أمام إصلاح قطاع الكهرباء. وهي التي تستنزف خزينة الدولة من خلال سلف الخزينة غير المغطّاة بتوفّر الاعتمادات الكافية. وهو ما يعزز النزف الحاصل في مالية الدولة، على وقع الفساد المستمر، حتى في الظروف الراهنة التي تعيشها البلاد.
مشكلة الفيول تُضاف إلى المشاكل الأخرى التي سرّعت إعلان خطة إصلاح الكهرباء، ومع ذلك لم يأتِ الإصلاح، بل زادت أزمة الفيول التي لم يعرف روّادها سبيلاً إلى التخزين لكسب الوقت والمال. علماً أنه جرى توقيع عقد مع شركة روسنفت الروسية بهدف إعادة تطوير منشآت النفط في طرابلس، ليتمكّن لبنان من تخزين النفط. لكن لم يحصل شيء من هذا.
تأتي أزمة التخزين بالتوازي مع اقتراب انتهاء العقد الموقّع مع شركة سوناتراك الجزائرية، التي يبدو أن خروجها من لبنان بات أكيداً، بعد فضيحة الفيول المغشوش التي طالتها نتيجة محاولة أطراف لبنانية تحقيق استفادة خاصة عبر استغلال العقد مع الشركة الجزائرية.
وبالتالي، لا منشآت جاهزة لتخزين النفط، ولا شركة جاهزة لتوريده. الأمر الذي يفتح احتمالات تجدد الأزمة على مصراعيها، ما دام المسيطرون على وزارة الطاقة، يعملون على ترتيب استدراج عروض لتوريد النفط، لا تُراعي المعايير الشفّافة، ولا المصلحة الوطنية التي تقتضي تقدّم شركات لبنانية إلى المناقصة.
فبدل وضع دفاتر شروط تعزز القدرة التنافسية للشركات اللبنانية، وضعت وزارة الطاقة شروطاً تعجيزية أمام الشركات المحلية، وتلاءم الشركات الأجنبية. ولم تجد الجهات المعنية حرجاً في إبداء رغبتها في إدارة المناقصات في التفتيش المركزي، بانسحاب الشركات اللبنانية لصالح الأجنبية.
وفي جميع الأحوال، وإلى حين الانتهاء من إعداد ما يلزم، تكون البلاد قد وصلت إلى مرحلة تفاقم الأزمة والوقوع في تقنين أكثر حدّة مما سبق، وسط غياب النفط المخزّن، علماً أن التخزين من العناصر المهمة جداً لتفادي أزمة الكهرباء.
تقنين قاسٍ
تراهن الحكومة على الوقت، فإما أن يصطلح الحال بمعجزة تأتي من المجتمع الدولي، وهذا أمر مستحيل، أو تراهن على الانهيار الشامل بحيث لا يبقى هناك مجال لرمي الاتهامات والملامة على أحد. أما الرهان على “الاتجاه شرقاً” فضرب من الجهل أو المكابرة.
فأقرب شرق يقبل مساعدة مبدئية للبنان، هو العراق، وقد تضارب ما أعلنه مسؤولوه حول المساعدات النفطية للبنان، مع ما أعلنه ساسة لبنان.
وبذلك ينضم الموقف العراقي الى سلسلة المؤشرات التي تعزز احتمال تعقيد الوضع كهربائياً. فحتى اللحظة، لا تخزين في الشمال، وسوناتراك قاب قوسين من المغادرة، والعراق غير جاهز لتقديم المساعدة من دون مقابل… أي أن مؤشّرات التقنين القاسي أصبحت أكثر وضوحاً.