مَشاهد كارثية تصعب حتى على الخيال وأضرار تفوق الوصف وتكاد أن تنافس صورَ الدمار الشامل في فيلم 2012 الشهير حول نهاية العالم. مآسٍ وكوابيس عاشها اللبنانيون منذ أن دوى الانفجار المُرْعِب غروب الثلاثاء ولم يمْحُها النهار الذي أطلّ برأسه مدجَّجاً بوقائع كارثية دخلت التاريخ الأسود لبلادٍ باتت وكأنّها في جحيم دائم. «الراي» رافقتْ مسعفتين من إحدى الهيئات الإنقاذية ليلة الانفجار وشهدت عبرهما على صور الألم والخوف والحزن التي حلّت بالناس في الشوارع والبيوت.
شوارع تغيّرت معالمها
«سلام»، صبية عشرينية كانت على بُعد 10 كيلومترات تقريباً من منزلها الواقع في منطقة مار مخايل القريبة من المرفأ. اتصلت بالأهل عند سماعها دوي الانفجار ولم تلْقَ جواباً، فحاولت الالتفاف بسيارتها والعودة لكن الأمر مستحيل وعدد السيارات العالقة يعوق أي تحرك. كررت الاتصال وأتاها جواب شقيقتها هذه المرة مجهشة بالبكاء: بيتنا تهدّم كله… وانقطع الخط… ركنتْ سيارتها على جانب الطريق، نزلت واتجهت ركضاً الى بيتها… ركضت حتى انقطاع النفس لتصل الى منطقة منكوبة مدمّرة مخيفة لم تتعرف الى معالمها رغم أنها كبرت فيها. صعدت درج البيت فوق الركام لتجد أهلها محبوسين في غرفة داخلية بعدما تَعذّر عليهم فتح الباب بسب قوة الانفجار. استنجدتْ بمَن كان واعياً وقادراً من الجيران لدفْع الباب وكسْره وإخراجهم مضرجين بالدماء والتراب. أنزلتْهم الى الطريق لتأمين مَن ينقل الأم والأخت الى مستشفى الجعيتاوي القريب. الأب رفض المغادرة وترْك البيت رغم جروحه. فهو قد جمع لوقت الحشْرة مبلغاً من المال في الخزانة لم يعد يعرف أين هو. يرفض أن يدير ظهره لذلك المبلغ الوحيد المتبقي له ليؤمن مبيت وقوت غده. نظّفت «سلام» جرحه، غسلته ببعض الماء وأمّنت على أن أهلها يلقون العناية المطلوبة.
بعدها أكملت طريقها ركضاً نحو مركز الإسعاف في منطقة الجميزة. التقت بدراجة نارية وسألت سائقها أن يوصلها، لكنه كان تائهاً مشتَّتاً غير مدرك ما يحدث حوله فلم يستجب لطلبها. واصلت طريقها ركضاً فوق الركام والزجاج والأوراق المتناثرة من المصارف المجاورة. موظفو المصارف في الشارع يُنْقذون ما تَيَسَّرَ من أوراق وملفات ويجمعونها عن الأرض. كنبات وطاولات وخرق ملابس في وسط شارع مار مخايل… أبواب المحلات الحديدية مخلّعة وبعض الناس داخل دكاكينهم يتفقدون أضرارها. سيدة كبيرة في السن جلست على كرسي أمام محلها لا تستجيب لتوسُّل أحد الشباب أن يساعدها على الصعود الى بيتها. وعند إصراره صرخت به: ما في بيت بقى. في هل دكان مش رح اتركه، بدي جمّع الأغراض بأكياس وضبّهم….
دماء المتبرعين تضمد الجراح
مركز الإسعاف في منطقة الجميزة مهدّم، أسقفه الاصطناعية انهارت، بابُه انتُزع من مكانه، جدرانه تخلخلت، كنبةٌ طارت من أحد بيوت المبنى المقابل وحطّت عند مدخله. من فجوةٍ في الجدار دخلت إحدى المسعفات لتجد الركام يغطي المكان. الجرحى في الخارج يتوافدون الى المركز الذي لا قدرة له على مساعدتهم إلا بتعقيم بعض الجروح البسيطة وتضميدها… الشبان والشابات الموجودون هنا يرجونهم التوجه الى المستشفيات القريبة لتلقي العلاجات الضرورية. وحدُه الهاتف لم يتوقف عن الرنين: إنهم الناس يتصلون ليتبرّعوا بالدم. يصرّون رغم عدم قدرة المركز… يغضبون أحياناً فهم يودّون المشاركة في جهود الإنقاذ ويريدون لدمائهم أن تنقذ مَن فقدوا دماءهم، لكن ظروف المركز لا تسمح باستقبال المتبرعين. الكل فيه منهمكون برفع الجدران المهدمة عن الأرض وإزالة بعض الركام. سيارات الإسعاف في الخارج كلها مصابة، أكثر من 12 سيارة لم تعُد تصلح للسير.
بالقرب من المركز صبية مضرجة بالدماء في الشارع، تصرخ لا ألماً أو خوفاً بل بشكل هستيري لأنها لم تعد تحتمل صفارات أجهزة الإنذار المتداخلة التي ترتفع من المصارف والبنايات العصرية وحتى من سيارات الإسعاف وكأنه «كونسرت» جنائزي سوريالي مجنون. «خلص… اسكِتوهم» تصرخ وتصمّ أذنيها…
الشارع أمام المركز كله معتم لا كهرباء فيه، أحد الجرحى يُمْسِك هاتفه بيدٍ ليضيء على جرحه في اليد الأخرى ليتمكن المسعف من تنظيفه وتضميده قليلاً. الجميع كانوا يتحركون على ضوء الهواتف محاولين تنظيف المكان… يبكون تنهمر دموعهم دون أن يدركوا أو يحاولوا كبْتها.
أهوال تفوق القدرة على التحمل
«نايلة» إحدى المسعفات هرعتْ من بيتها نحو مركز الإسعاف حيث تعمل. توقّفت أمام مستشفى أوتيل ديو في الأشرفية لتعيش أصعب لحظات حياتها وأقساها. هنا رأت رجلاً أربعينياً يُمْسِك يدَه المقطوعة بيده راكِضاً نحو المستشفى… وهنا أيضاً رأت شباناً يلفون صبية بنفس عمرها تقريباً بشرشف ويضعونها في سيارة خاصة ويرحلون بها. هي ميتة لا شك.
لم ترد نايلة ان تتوقف كثيراً عند هذا المشهد المؤلم وإلا لَما استطاعت متابعة سيرها… أكملت الطريق نحو مجمّع ABC في الأشرفية أو ما كان قبل ساعات مجمعاً إذ بات كما رأتْه كومة من الخردة المتناثرة. لم يَسقط، لكن الأضرار فيه مخيفة، زجاج وحديد وركام في كل مكان…
نحو نزلة العكاوي أكملت طريقها… هنا الأرض مرصوفة بالزجاج، السيارت تتزحلق على الزجاج وكأنه طبقة من الجليد… أبواب محلات المجوهرات الراقية في الشارع مخلعة، وبأم العين رأت بعض عمليات السرقة. فالناس معدمون محتاجون، وربما رأوا في الأمر فرصةَ الحصول على ما يساعدهم على الصمود في وجه الكارثة. المصارف هنا أيضاً تجمع أوراقها المتناثرة وتحاول ان تحمي محتوياتها من بعض السارقين.
نزولاً نحو الجميزة تغطي أغصان الأشجار الأرض في مشهد سوريالي. أكثر من بناية قديمة في الشارع الشهير انهارت أجزاء منها على الأرض. رجل ستيني يجلس عند كومة أنقاض يضع رأسه بين يديه و يجهش بالبكاء، توقفت عنده نايلة لتسأله ماذا يحتاج فأجابها: كنت أنام في الشارع والآن حتى الشارع ما عاد موجوداً… متشرّد هو، والشارع مأواه ولم تستطع إقناعه بالابتعاد عن المكان المعرّض للمزيد من الانهيارات.
أوقفت دراجة نارية لتستقلّها: سائقها لا يضع كمامة، فكّرت بنفسها، بـ«كورونا»، بتوصيات المسؤولين عنها. خافت، فرغم هول ما رأتْه من حولها ورغم المآسي لم تشأ التعرّض وتعريض من حولها لخطر إضافي، أكملت طريقها نحو المجهول في ليلة ستنطبع أهوالُها في ذاكرتها الى الأبد.
هيروشيما، تسونامي؟
وانجلى الليل على نهار أشدّ سواداً من عتمة الليل. قصد طوني مكتبه في المرفأ ليتفقد جني العمر. وصل حتى جسر الكرنتينا ومنعه الجيش من إكمال طريقه بالسيارة فركنها جانباً وتابع السير على قدميه للوصول إلى«ما كان» مركز عمله الى جانب المرفأ. عشرات السيارات المحطّمة بين اوتوستراد المرفأ والطرق الداخلية تملأ الجوانب. إنها هيروشيما، فلا وصْف يمكن أن يرسم صورة المكان. المرفأ من الطريق العلوي كتلة حطام متفحّم… لم يتبقّ منه شيء، أي شيء وكأن تسونامي أصابه… في الهنغارات الموازية للطريق البضائع مبعثرة متراكبة فوق بعضها البعض، صناديقها ممزّقة مشلّعة والأسقف لم يبق منها إلا حدائد معلقة. أعمدة الكهرباء والأسلاك الكهربائية على الأرض وسط ركام المباني والسيارات… وصل طوني الى ما كان على مدى عمر بأكمله مكتبه ومركز عمله. إنها الكارثة… كل شيء ركام، لا أجهزة، لا آلات، لا ملفات ولا طاولات أو شبابيك أو أسقف نجت، فكل شيء على الأرض. ملفات الزبائن والمعاملات الجمركية باتت قصاصات أوراق مبعثرة على الأرض. فَتَّشَ عن دفاتر الحسابات فوجدها محمية تحت طاولة المكتب المقلوبة، أزاح عنها بيديه العاريتين الزجاج والركام، تجرّحت أصابعه، جَمَعَ دفاتر حساباته ومضى متحسراً على بلدٍ كان مرفأه منارة للاستيراد والتصدير في يوم من الأيام فبات يئنّ موتاً وخراباً وصار… قبراً مفتوحاً.