ما أشبه اليوم بالأمس
اشتباكٌ ليلي، تواصلٌ نهاري، وصولاً إلى عقد اجتماع يصوَّر إيجابياً. ولكنه يحتاج إلى مزيد من الوقت. وكل ما قيل ليس سوى نسخة مكررة عن اللقاءين 13 و14 بين الحريري وعون.
حينذاك عقد لقاء بينهما عصر يوم جمعة. واتفقا على عقد لقاء ثان يوم الإثنين. وكانت النبرة أكثر إيجابية منها اليوم، فقيل آنذاك إن الحكومة ستتشكل الإثنين. لكنها لم تتشكل.
الفرق هذه المرّة أن السيناريو يأتي على وقع تفاقم الانهيار، ومخاطر الانفجار. ثم إن النبرة أقل إيجابية، بعد اشتباك كبير، وصل إلى حدّ رفع لواء الاستقالة والاعتذار.
سيرك بهلواني
والخلاصة أن ما يحدث أشبه ما يكون بسيرك بهلواني: لقاء بعد اشتباك دعا فيه كل من الرجلين الآخر إلى الاعتذار والاستقالة.
الأول يريد العودة إلى صيغة العام 1989 عندما رفض الخروج من القصر الجمهوري وتسليم السلطة.
وربما هو يمهد لذلك في المرحلة المقبلة، في حال استمرّ الاستعصاء. أما الثاني فيريد استعادة تجربة الرئيس صائب سلام مع الرئيس بشارة الخوري على وقع الثورة البيضاء في العام 1952، بعد ثلاثة أيام من العصيان المدني والإغلاق الشامل، ما دفع بالخوري حينها إلى الاستقالة.
والرئيسان اليوم يلعبان كرة الطاولة. وكلاهما يقذف الكرة في اتجاه الآخر، ويحمله المسؤولية.
الحريري فوجئ بكلمة عون التصعيدية. فأيقن سريعاً أن رئيس الجمهورية يريد إحراجه، وتحميله مسؤولية التعطيل. ولذلك دعاه لزيارته للتوافق على حكومة، أو فليعتذر.
تلقف الحريري الكرة سريعاً، ردّ ببيان عنيف دعا فيه عون إلى التوقيع على التشكيلة التي سلّمه إياها سابقاً، أو فليستقل ويتنحى.
لكنه أبدى استعداده إلى زيارته في بعبدا، للبحث مجدداً في فرص تشكيل الحكومة.
وفي البداية برزت فكرة لدى الحريري لإحراج عون، ومن القصر الجمهوري: إطلاق موقف يثبت أن رئيس الجمهورية هو الذي يعرقل.
لكنه عدل عن ذلك، بعد نصائح ومداولات عديدة. فاختار أن يذهب في اللعبة إلى النهاية، والتصرف بحنكة.
لذا، أشار إلى أن الجو يمكن أن يبنى عليه. وهناك فرصة لا بد من انتهازها.
هذه القاعدة لا تعني شيئاً سوى مواكبة عون إلى نهاية الطريق، من دون استباق المواقف. وفي حال لم يحصل الاتفاق يحمّل الحريري عون المسؤولية.
أما في حال الاتفاق على الصيغة التي كانت مقترحة، فيخرج عون ليقول للحريري: “أضعت أسابيع عديدة برفضك المبادرة التي عرضناها عليك مع عباس إبراهيم، قبل أكثر من شهر ونصف”.
إنها حلقة من لعبة مستمرة، لكسب للوقت وتقاذف المسؤوليات، وتخدير الناس أو بيعهم المزيد من الأوهام، وتهدئة سوق الدولار.
ذهب الحريري إلى القصر ومعه مغلّف تشكيلته القديمة، مبدياً استعداده للتشاور والانفتاح على تعديلات، ولكن متمسكاً بحكومة من 18 وزيراً، لا ثلث معطلاً فيها. وقال إنه ينتظر ملاحظات من الرئيس عون. ولا بد أن يكون الحريري قد قال لعون: “أنا سلمتك تشكيلة وحتى الآن لم تبد رأيك بها. أنا أنتظر الملاحظات عليها”.
وهذا يعني أن الرجلين لا يزالان في المربع الأول.
فيما قدم أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله طرحاً جديداً حول شكل الحكومة وهويتها داعياً للذهاب إلى تشكيل حكومة سياسية بدلاً من حكومة الاختصاصيين.
الحكاية من أولها
ولا بد من العودة إلى بداية القصة.
عشية زيارة الحريري إلى الدوحة، زاره اللواء عباس ابراهيم، حاملاً له مبادرة من عون: تشكيل حكومة من 18 وزيراً، من دون ثلث معطل، مقابل احتفاظ عون بوزارة الداخلية.
رفض الحريري بداية، ولم يعتبر الطرح رسمياً، وأعلن تمسكه بالداخلية. لكنه قال إنه يناقش الموضوع بعد عودته.
واستؤنفت الاتصالات مع الحريري في بيروت. زاره ابراهيم مجدداً، حاملاً الصيغة نفسها، مقابل التوافق على وزير الداخلية.
أي أن يقدم عون مجموعة أسماء يختار الحريري واحداً منها. لكن سرعان استحضرت عقدة جديدة: في حال السير بهذه الصيغة، لا بد لتكتل لبنان القوي أن يمنح حكومة الحريري ثقته، طالما أن عون سيحصل على 6 وزراء.
أما في حال امتناع التكتل عن منح الثقة، فلن يحصل عون إلا على وزراء ثلاثة فقط، بصفته رئيس الجمهورية.
ورفض عون الاقتراح رفضاً قاطعاً.
وبادر الرئيس نبيه برّي في محاولة توفيقية: أن يختار هو مجموعة أسماء للداخلية، ويتوافق عون والحريري على واحد منها.
وأُجهض المسعى.
وأجهضت محاولات توسيع الحكومة مجدداً إلى عشرين وزيراً، بعد إصرار الحريري على صيغة الـ18 وثباته عليها، ورفضه التراجع عنها.
الضغوط على عون
أما ما دفع عون إلى موقفه الأخير من الحريري، فهو حجم الضغوط الخارجية والداخلية التي تعرض لها.
إضافة إلى أن المجتمع الدولي أصبح على قناعة بأن عون هو الذي يعرقل. اللعبة تقتصر الآن على كسب الوقت، وتقاذف المسؤولية، وتهدئة سوق الدولار.
أما الدول – وخصوصاً باريس التي طرحت مبادرتها وأجهضت أكثر من مرّة – قد سئمت من ممارسة المزيد من الضغوط. وقد توعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تغيير الأسلوب والنهج في ما يخص لبنان في الأسابيع المقبلة.
هذا كلام لا بد من التوقف عنده، والتخوف من الآتي الذي قد يحمل المزيد من الانهيارات والتوترات في نهاية مواسم أوهام الاهتمام الخارجي، الذي قد يقتصر على فرض عقوبات على المسؤولين، أو العمل على بدء التعامل جدياً مع هذا الانهيار المستفحل.