هل مزاولة النساء لمهن الرجال هو تحد للعادات والتقاليد ام متابعة لدور المرأة في بناء الأجيال؟ والسؤال لماذا لا يستهجن المجتمع عمل الرجال في مهن النساء؟ في حين يأبى ان يتقبّل عمل المرأة في مهن تم اقناعنا منذ الصغر انها ذات صبغة ذكورية تفرديّة، ومن المسؤول عن تحديد مهن الرجال والنساء؟ مجموعة أسئلة قد تمر في ذهن أي انسان، الا انه في الواقع لا الدين ولا العرف يمنع كلا الجنسين من ممارسة أي نوع عمل، بحيث لا يوجد تصنيفات لقطاع المهن قائمة على مبدأ الانوثة والذكورة، لان الانطلاق من هذا المعيار سيكون في الحقيقة تقسيما للمجتمع وعدم انصاف للمرأة باعتبارها نصف المجتمع، ومعيار الوظيفة يجب ان يقوم على مبدأ العلم والكفاءة والقدرة الفكرية والجسدية
في سياق جندري متصل، علينا الا ننسى الظروف الاجتماعية التي تدفع بالفئات الهشة، لا سيما الأطفال والنساء للعمل في مهن قاسية او ذات إمارة ذكورية، وهذا أفضل من التسول او الانحراف برأي شريحة كبيرة من النسوة. وما تجدر الإشارة اليه، انه لا يوجد اعمال جلفة على النساء، بحيث ان العولمة الثقافية سمحت لها ان تتبوأ مراكز قيادية ، فكانت على “قد الحمل وزيادة”.معيار الوظيفة على أساس العلم لا الجندرالنساء يستطعن الحصول على كل شيء بالإرادة والإصرار والمجازفة، من هذا المنطلق بالرغم من المهن التي اعتُبرت ذكورية كـ “بوليش” السيارات والميكانيك او حتى قيادة الطائرات والقطارات كسابقة فريدة من نوعها بالنسبة للنساء، واللافت حديثا هو ما يحدث في الحرب الروسية- الاوكرانية بحيث ان النساء يقاتلن الى جانب الرجال في خندق واحد، ومن هنا تتزايد عملية اندماج النساء في مهن تعد قاسية نوعا ما، باعتبارها تتطلب حنكة وسرعة بديهة وقوة جسدية وبراعة في التصرّف.
وبحسب AUTO SHINE وهي شركة متخصصة بجميع مستلزمات السيارات من دهان وبويا وتنجيد وترميم فرش المقاعد، “إن نسبة عمل الاناث في لبنان بهذا المجال قد لا تتعدّى الـ 1% والذي بجوهره يعتمد على تلصيق أوراق بديلة عن دهان السيارات، وهو ما يعرف بـ “البوليش” اوSPA ” . وفي اطار الأرقام بالنسبة للمهن الذكورية التي شغلتها النساء، فان معدل القاضيات في لبنان بلغ 60% بحسب الـ UNDP ، كما ارتفع عدد المتطوعات في السلك الأمني وتحديدا قطاع قوى الامن الداخلي منذ العام 2012 ،حيث بلغ 35% تقريبا، وفي تحقيق سابق أجرته “الديار” مع السيدة داليا ياسين التي تعمل على “التوك توك” كوسيلة نقل للبضائع والأشخاص وطلاب المدارس و”دليفري” يعد سابقة فريدة من نوعها بالنسبة للمجتمع ونوع وسيلة النقل.وأيضا السيدة عايدة جوهر تعمل على سيارتها ذات النمرة البيضاء كسيارة اجرة مصطحبة طفليها معها علّها تجني بعض الأموال لتوفير احتياجاتهم في هذه الظروف الصعبة، وتعتبر ان العمل على سيارة تحمل لوحة بيضاء ليس مخالفة للقانون في ظل ازمة اقتصادية شديدة، ويبقى أفضل من التسوّل او الحصول على كرتونة “اعاشة”، وتضيف، “العمل مش عيب”.
تعددت الأسباب والإصرار واحد
تتصدّى النساء في هذا الإطار لمفهوم النظرة النمطية، ولأسباب مختلفة منها العوز او اثبات طاقتهن في ممارسة أي صنعة مهما علا شأنها او كانت معقّدة، باعتبار انها محصورة في الرجال فقط.في هذا السياق، من الطبيعي ان تصارع النساء عقبات ليس لجهة العمل واتقانه، وانما لتفوقهم على زملائهم من الرجال في نفس الاختصاص، الامر الذي يدفع بهؤلاء لممارسة كل عناصر الاكراه والمضايقة على الجنس اللطيف، وأحيانا قد تصل الى التحرش اللفظي، والذي يعد نوعاً من أنواع التحرش الجنسي.في هذا الظرف، النساء لا يتذمرن من عمل الرجال في حرفة قد تعد محصورة بهن لارتباطها بتاء التأنيث، أي التزيين وتصميم الملابس والطبخ، بل يفضلن لمسات ذكورية. بالإشارة الى انه عند الحديث عن مجال عمل انثوي لا يعد اقتحاما على عكس ما قد يقال عن الانثى لو شغلت مجالا ذكوريا، من هنا انقلبت الآية وبدأت النساء تشغل صنعة حتى يومنا هذا تعتبر حكرا على الرجال.من علم النفس الى SPA السياراتقد يصبح التنافس هواية تُخرج مبدعين او مبدعات في أي مجال، ومي نعيمي ترجمت القول بالفعل فقالت لـ “الديار” كنت ادرس علم النفس في الجامعة اللبنانية، وبسبب الظروف الاقتصادية لم أستطع ان أكمل تخصصي، فالتحقت بشركة AUTO SHINE للعمل فيها، والتي تتخصص في كل ما تحتاجه السيارات من “بوليش” وتنجيد وترميم الفرش وغسيل، إضافة الى الحدادة والبويا.اضافت: “لم يكن ببالي ان اعمل في هكذا مهنة، الا ان الوضع الاقتصادي وجائحة كورونا منذ العام 2019 والتلاعب بسعر صرف الدولار دفعت بي للتفتيش عن عمل، وبالفعل اتصل صاحب الشركة وأخبرني انضمامي لي للعمل معهم”. وتابعت، “انا عملي يختص بما يسمى بـ RUBBING وBBF، هذا المجال بعيد كل البعد عن اختصاصي الجامعي، الا انني اضطررت للمجازفة في مهنة لدي ميول لممارستها، ومن هنا اثبتت قدراتي لما تتطلب من ثقة بالنفس وعدم خوف او تردد واقدام مليء بالحماس والتوازن والصلابة”.وتعتبر نعيمي ان ما تقوم به هو عمل فني يتطلب براعة وذوقا، كما ان العمل ليس “عيبا” او محظورا، ولا يفقد الانثى هويتها البيولوجية، بل على العكس يحفّز الثقة بالنفس. وتتساءل: “لماذا لا يعترض المجتمع على امتهان الرجال لمهن نسائية كالتزيين النسائي والتجميل والطبخ والموضة”؟ مشيرة الى انها ليست ضد هذا طالما كلا الجنسين يبحثان عن الرزق، ولفتت “ان لا شُرعة او دِين يفرض على الرجل او المرأة الوظيفة التي سيشغلها، ويبقى المقياس هو الجدارة والمجهود والتمكّن”.المهنة لا تفقد المرأة هويتها البيولوجيةوتلمّح نعيمي بالقول: “بداية المعوقات قد تحدث وهذا يعد بالأمر الطبيعي، فنظرة الرجال لنا كفتيات وتفكيرهم المحدود بقدراتنا وانتاجيتنا وخبراتنا والقوانين الوظيفية تؤهلنا للدخول في أي بيئة عمل. وتستطرد: اما ما الذي يمكن ان أقدمه على المستوى الشخصي لم يكن ليتوقع أحد من الزملاء ان أبرع، وحدث العكس وتفوقت وبتّ في مركز صاعد، فأنا استلم سيارة وانفذها كاملة دون مساعدة أحد، الا انه يشرف على ما أقوم به متخصص، وهذا لا يشعرني بالسلبية بل يعطيني إيجابية تدفعني لأكون أفضل.وتشير نعيمي: “ان رجالا لا يمكنهم تقبّل فتاة متقدمة عليهم، كما ان الزبائن “يستظرفون” المسألة ويتعاطون بإيجابية على عكس ما يتصوره “الذكوريون”، وأشارت الى “ان الشخص الذي يدربني يشجعني للمضي قدما، كما يعتبرني مؤهلة للمنافسة دون مساعدة او اشراف من أحد”.وتؤكد ان “العمل كان جديد بالنسبة لي، ولم أتوقع ان أكون في هذه مهنة ولم اعي ماهية التكنيك التي يقوم عليها، الا انني صممت على ان اتعلم في كافة الاقسام وامارس بيدي كل شيء حتى اكتسبت الخبرة، واليوم صرت اتقن كل ما يتعلق بعالم السيارات لتتحول الصدفة الى اختصاص واتقان في “بوليش” ودهان وتنجيد ورثي فرش السيارات…وتلفِتُ نعيمي الى “ان بعض المهن بحاجة الى اقدام وإرادة، ولا تنتقص من أنوثة المرأة او تفقدها هويتها البيولوجية، وهذه الوظيفة أثبتت نفسي فيها وعن جدارة وبشهادة أصحاب العمل”، وتضيف: “للأسف الكثير من الوظائف يعتقد الرجال اننا لا يمكننا التفوّق فيها عليهم الا اننا نثبت العكس وبقوة، هذا الامر في الواقع يزيد الضغوطات علينا عبر طرق وأساليب مختلفة، كالتضييق في معرض تنفيذ مهامي، الا ان الإرادة دائما تغلب وتنتصر، المهم الاستمرار وعدم الاستسلام، والاهم عدم الرضوخ لأي منها”.الذكورية فعل ملاصق للرجولة لا للعمليرى الأستاذ الجامعي في علم الاجتماع والنفس محمد الخطيب: ” إذا اعتبرنا ان هذه المهن هي للرجال وتقوم بها النساء فإننا نسقط في الذكورية، مبيّنا ان معظم المجتمعات العربية تسّوق فيها ارتباط المطبخ والعمل المنزلي بالمرأة. وإذا تساءلنا كيف بتنا نعتقد ان هذه الاشغال هي للرجال، وهل هي كذلك بالفعل، سيكون الجواب انه منذ صغرنا تم اقناعنا بأن المرأة مكانها المطبخ”.ويلفت الخطيب في حديثه لـ “الديار” الى ان الرجال لا يرون هذه الاعمال تناسب بنية النساء البيولوجية والعقلية والوجدانية، بحيث اننا في الواقع المجتمعي يسيطر الرجل على مجريات الاعمال بغريزة القوة البدنية أكثر من الفكرية، ويؤكد انه رغم كل الحواجز والانتقادات التي طالت النساء بسبب عملهم الذي يعتبره المجتمع العربي الشعبي اعمالا ذات صلة بالرجال، فقد حققن إنجازات وانتصارات عظيمة في مختلف القطاعات والمجالات الحياتية.وابعد من كل ما تقدم تقول مي نعيمي: “اليوم الجميع يشهد لي بأنني فزت، حتى ان بعض الزبائن يثنون على عملي، ومنهم يجلس بالقرب مني يراقبني كيف اعمل بدقة وتركيز عاليين دون وجل او خوف او ارتباك”. وتشير الى “ان بعض الزبائن يفضلونني على زملائي الذكور، وهذا ما جعلني اتمتع بكفاءة وأزيد من ثقتي بنفسي، حتى انهم يتفاعلون معي بإيجابية وأسلوب راقٍ، مما يدفعني للعمل بحرفية كبيرة”. وتضيف: “عندما نتحدث عن هكذا مهنة لوهلة تتخيلين شابا وليس فتاة، الا انني وبسبب حبي الكبير للسيارات كسرت هذا “التابو” والصورة النمطية المتعارف عليها مجتمعيا لهذا النوع من المهن، كما أني اعشق الراليات واتابعها. بالإشارة الى ان والدي يطلب مساعدتي في سيارته لدى قيامه بأي اصلاح ويشجعني في مساعدته والمضي في عملي”.على الرجال ان يخرجوا من ثقافة رؤية المرأة كمعلمة او كموظفة مصرف، وان يتقبلوا ان المرأة قبل أي شيء نصف المجتمع، وفيها تجتمع كل الوسائل والأساليب والثقافة والعلم لبناء مجتمع خال من عدم المساواة. وربما في هذه الظروف بحسب علماء الاجتماع والنفس يجب تعليم الأبناء منذ الصغر كيفية مواجهة الصعاب والتحديات الاجتماعية والاقتصادية، و”الأبناء” كلمة تختصر الصبيان والبنات، حتى الأديان السماوية انصفت المرأة. فلماذا المجتمع يتنصل من هذا الانصاف، ويتمسك بكل شيء الا العدل فيما يختص المرأة؟ “الديار”