لا يزال الملف الاقتصادي في العراق يشكل واحدا من أكثر الملفات تعقيدا وأكثرها غموضا في آن معا، فضلا عن الأرقام الصادمة التي تكشفها المؤسسات البحثية الاقتصادية وما يترتب عليها من ردود فعل حكومية وإجراءات.
ففي تقرير نشرته مؤسسة “عراق المستقبل” المستقلة المعنية بالشؤون الاقتصادية مؤخرا، كشف عن أن العراق يعد الدولة الأكبر بعدد الموظفين الحكوميين نسبة إلى مجمل القوى العاملة بالاعتماد على دراسة أعدتها منظمة العمل الدولية وبيانات المؤسسة.وقال رئيس المؤسسة منار العبيدي إن نسبة العاملين في القطاع الحكومي بالعراق بلغت 37% بين مجموعة دول شملتها الدراسة، إذ يعتبر القطاع الحكومي الأكثر ضغطا على الموازنة العامة للدولة التي تذهب بمجملها كرواتب للموظفين، دون وجود إنتاج حقيقي يوازي هذه المصروفات العالية نتيجة عدم خلق بيئة استثمارية تساهم في تشجيع القطاع الخاص وتوفير فرص عمل من خلاله، الأمر الذي يزيد من الضغط على القطاع العام.
أرقام صادمة
ووفقا لمؤسسة عراق المستقبل (مؤسسة مستقلة)، حلت السعودية بالمرتبة الثانية بنسبة 35.3% في عدد الموظفين إلى اليد العاملة، تليها الصين بنسبة 28%، وشملت الدراسة 12 دولة.في غضون ذلك، يشير الخبير الاقتصادي مصطفى أكرم حنتوش إلى أن الإحصائيات عن أعداد الموظفين بالعراق غير دقيقة، بيد أن المعلن يؤكد وجود ما يقرب من 2.5 مليون موظف في القطاع العام المدني، إضافة إلى 1.75 مليون موظف في الأجهزة الأمنية التي تشمل وزارتي الدفاع والداخلية ومكافحة الإرهاب والمخابرات وغيرها، وبالتالي فإن في العراق ما يقرب من 4.5 ملايين موظف حكومي.ليس هذا فحسب -يتابع حنتوش في حديثه للجزيرة نت- فهناك نحو 3.5 ملايين عراقي يتقاضون رواتب تقاعدية من الدولة، وهؤلاء خارج نسبة 37% من إجمالي اليد العاملة المعلن عنها، مع الأخذ في الاعتبار أن جزءا من الموازنة يذهب لصندوق التقاعد بسبب عدم امتلاك الكثير من المتقاعدين لمدخرات تقاعدية في صندوق التقاعد الذي أعيد بناؤه عام 2008، بحسب حنتوش.
متقاعدون ورعاية اجتماعية
لم تنته القصة هنا، فأرقام العراقيين الذين يتقاضون رواتب من الدولة كبيرة، حيث يؤكد حنتوش أن ما يقرب من 1.5 مليون عراقي يتقاضون رواتب ضمن ما يعرف بالرعاية الاجتماعية (رواتب شهرية تمنحها وزارة العمل للعوائل الفقيرة)، وبالتالي فإن مجموع العراقيين الذين يتقاضون رواتب شهرية من الدولة يقدر بـ 9.5 ملايين عراقي يعتمدون في معيشتهم على الدولة بصورة مباشرة (موظفون ومتقاعدون وذوو الرعاية الاجتماعية)، وهو ما قد يشكل نسبة 23% من سكان العراق الذي تقدر وزارة التخطيط عدد سكانه بنحو 42 مليون نسمة.ويؤكد هذه الأرقام أستاذ الاقتصاد بالجامعة العراقية عبد الرحمن المشهداني، حيث أضاف أن الرواتب بصورة عامة تستهلك نحو 75% من قيمة الموازنة العامة للبلاد، لافتا إلى أن إنتاجية الموظف العراقي تختلف من دائرة إلى أخرى، وأن البنك الدولي كان قد قدر معدل ساعات عمل الموظف بالعراق بنحو 17 دقيقة فقط بالاعتماد على عدد الموظفين الكلي نسبة لليد العاملة.واستمرارا للأرقام القياسية في هذا الملف، كشف مظهر محمد صالح المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي أن الحكومة العراقية تعد الجهة الثرية التي تستحوذ على ما يقرب من 65% من الناتج المحلي الإجمالي في البلاد.ويتابع في حديثه للجزيرة نت أن نسبة الموظفين العموميين في العراق تقدر بنحو 37% من مجموع اليد العاملة في البلاد، الأمر الذي يعني أن هناك موظفا حكوميا لكل 10 مواطنين، في الوقت الذي تختلف فيه هذه النسب من دولة لأخرى، حيث إن الموظف الحكومي في ألمانيا يخدم 150 مواطنا، وفي مصر هناك موظف لكل 25 شخصا، وأن العراق يعد الأعلى على مستوى العالم في هذه النسب، بحسب صالح.متناقضاتتفيد البيانات التي أفصحت عنها مؤسسة عراق المستقبل الكثير من علامات الاستفهام، لا سيما أن عضو اللجنة المالية النيابية جمال كوجر كان قد كشف في وقت سابق أن عدد الموظفين في الدولة العراقية يزيد على النسب العالمية بنحو 9 أضعاف، فضلا عن المعايير الدولية للوظيفة العامة لجميع المجتمعات التي تفرض وجود موظف واحد لكل 100 فرد، وهو ما يتناقض مع الواقع العراقي، ويقود إلى استنتاج مفاده أن نحو 9% من العراقيين يعملون في مؤسسات حكومية كموظفين لا يزالون في الخدمة العامة.ورغم أن العراق يعد الأعلى في أعداد الموظفين عالميا، فإن هناك الكثير من مؤسسات الدولة العراقية تعاني من شح بأعدادهم، وهو ما يشير إليه المشهداني في أن هناك ترهلا وشحا للموظفين في آن معا داخل مؤسسات الدولة، حيث تشكو وزارتا التربية والتعليم العالي من نقص الموظفين، إضافة إلى الترهل الوظيفي في مراكز المدن يقابله قلة الكوادر الوظيفية في القرى والأرياف، الأمر الذي يؤكد سوء التوزيع الوظيفي في وزارات الدولة.وبالعودة إلى حنتوش، حيث يعلق على هذه النقطة بالقول “لدينا إجراءات روتينية قاتلة في التوظيف وفي العمل ضمن السلك الحكومي، بالتالي فإن هذا العدد الكبير ضمن القطاع الحكومي ليس بالعدد الفائق، لكن حقيقة ليس هناك عمل لهم، حيث إن الروتين والفساد يجعل من الصعب الحصول على الخدمات العامة وهو ما خلق ترهلا في القطاع العام”.حجم اليد العاملة
وبالنسبة لحجم اليد العاملة التي تضاف سنويا للسوق العراقية، يقول حنتوش إن هناك زيادة سكانية كبيرة في العراق، وتدخل سوق العمل سنويا ما يقدر بـ 250 ألف شخص من أصحاب الشهادات الجامعية، فضلا عن حوالي 500 ألف شخص من أصحاب المهن وعديمي الخبرة، مع الأخذ بالاعتبار أن سوق العمل لا تستوعب سنويا إلا بحدود 100-150 ألف فرصة عمل، أي أن هناك فائضا في عدد اليد العاملة يقدر بنحو 150 ألفا لأصحاب الشهادات ونحو 250 ألف شخص من أصحاب المهن وعديمي الخبرة، بمجموع 350 ألفا يضافون للعاطلين عن العمل سنويا.ويرجع حنتوش استمرار ارتفاع البطالة لعدم امتلاك العراق قطاعا خاصا في مجالات الصناعة والاستثمار، باستثناء الأعمال التي وصفها بـ “الميكروية” التي تشمل المحلات التجارية الصغيرة وغيرها دون وجود استثمارات كبيرة، عازيا الأمر لاستشراء الفساد.واعتبر أن عدم وجود خطة استثمارية واضحة للدولة أدى لأن يكون العراق مثقل بنحو 67 مليار دولار كرواتب للموظفين والمتقاعدين وغيرهم ممن يتلقون رواتب من الدولة.من جهته، يؤكد صالح أن البلاد تشهد سنويا دخول 500 ألف شخص لسوق العمل داخل البلاد، مما يسهم في تسليط مزيد من الضغط على الحكومة لأجل توفير فرص عمل في القطاع العام، وفق قوله.ومن خلال معرفة أن 37% من اليد العاملة بالعراق تعمل في القطاع العام، وإذا ما كان عدد الموظفين الكلي 4.5 ملايين موظف، فإن مجموع اليد العاملة في العراق يزيد على 12 مليونا.انفجار شعبي قادموتعليقا على ذلك، يقول صالح إن ريعية الاقتصاد العراقي المعتمد على النفط بنسبة 93% منذ 30 عاما لا يُشغل إلا نحو 1% من حجم اليد العاملة بالعراق في القطاع النفطي، مضيفا للجزيرة نت أن المشكلة الرئيسية تكمن في ضعف الجانب الاستثماري، مستدلا بنحو 9 آلاف مشروع استثماري متلكئ في البلاد، تبلغ قيمتها الكلية نحو 250 مليار دولار، كان يمكن لها أن توفر عشرات آلاف فرص العمل.وخلال جائحة كورونا انهارت أسعار النفط عام 2020 مما تسبب بعدم قدرة الحكومة على دفع رواتب الموظفين بانتظام، وهو ما استمر لأشهر عديدة لم تنته إلا بارتفاع أسعار النفط قبل شهور.ويعلق المشهداني على ذلك بالقول إن التقارير الدولية والتوقعات تشير لاحتمالية تعرض العالم لموجة ركود اقتصادي وتراجع لأسعار النفط التي دائما ما تشهد نكسة كل 4 إلى 5 سنوات، هذا يعني احتمالية انفجار وغضب شعبي قادم في حال عجزت الحكومة عن دفع رواتب الموظفين وعدم توفير فرص عمل جديدة.ويتابع للجزيرة نت أن مشكلة البطالة لا يمكن معالجتها من خلال التوظيف الحكومي، وأن القطاع الخاص دائما ما يتعرض لانتكاسات قد تكون مقصودة، لحساب دول جوار العراق التي تصدر بضائعها للعراق.وليس بعيدا عن الأذهان ما حدث في السنوات الأخيرة من مظاهرات تطالب بتوفير فرص العمل، وهو ما أجبر الحكومة على فتح باب التوظيف لشرائح كثيرة من الخريجين، في محاولة لامتصاص غضب الشارع نتيجة البطالة دون مراعاة لأي مآلات مستقبلية.خطة حكومية طموحةورغم وجود العديد من السلبيات بسبب تضخم أعداد الموظفين، فإن لذلك مميزات، وفق ما يراه صالح، في أن هناك نوع من العدالة في توزيع الموظفين في العراق، وهو ما جعل غالبية العراقيين يعتاشون على الرواتب الحكومية.غير أنه وفي الوقت ذاته، يؤشر لمشكلة مستقبلية، معلقا “عدد السكان في تزايد سريع، سيبلغ بعد 10 سنوات قرابة 60 مليونا، وسيشكل ذلك تحديا للحكومات المستقبلية في حيثية بقاء الاعتماد على النفط الذي لا يعرف أحد مدى إمكانية استمرار أسعاره الحالية واعتماد العالم عليه كمصدر رئيسي للطاقة”.ولمعالجة ذلك، يكشف صالح عن أن البرنامج الحكومي الحالي يؤسس لما وصفه بـ “نقطة اختراق” حيث إن الدولة تطمح لتخفيض اعتماد الموازنة على النفط من 93% إلى 80% خلال 3 سنوات من الآن، وذلك بالاعتماد على الإيرادات الأخرى.ويؤكد توجه الحكومة نحو ذلك عبر مسارين، الأول من خلال استثمار إيرادات النفط في صندوق التنمية لإقراض القطاع الخاص والمشاريع، والثاني من خلال تأسيس صندوق الثروة السيادية الذي سيُشغِل الأصول السيادية داخليا لمصلحة النظام الاقتصادي لتشكيل ما وصفها برافعة للاقتصاد.ويختم حديثه بالقول “إذا نجحت الحكومة في ذلك، فإنها ستشكل فرصة لتشغيل العاطلين بمرحلة تختلف عن السابقة، مع تخفيف الضغط على القطاع العام”.وبالعودة إلى حنتوش، فإنه يرى ضرورة تفعيل القطاع الخاص من خلال تعديل مجمل القوانين التي تعنى بالاستثمار وتأسيس الشركات وهيئة الأوراق المالية، وذلك لمواكبة سوق العمل الخاص.أما رئيس مؤسسة عراق المستقبل فأشار إلى مجموعة خطوات على الحكومة العراقية اتخاذها، منها العمل على تهيئة بيئة استثمارية صحية قادرة على جذب الأموال لمختلف القطاعات ودعم القطاع الخاص وتشريع قوانين للعمل تتماشى مع متطلبات سوق العمل الحالي.وحذر من أنه مع استمرار نسب النمو السكانية، فإن ذلك سيزيد الضغط على الحكومة لتوفير فرص عمل، بما قد ينذر بكارثة حقيقية يجب حلها بخطوات جريئة واستباقية.”الجزيرة”