في أول يوم بعد عودتي المؤقتة إلى لبنان، هذا البلد الحبيب الذي لا يُستبدل بأي شيء آخر، ولدى التقائي بجميع الذين طال الشوق إليهم، كنت أُسأل السؤال نفسه: كيف شايفلنا هالوضع، هل سيُنتخب رئيس في القريب المنظور، وكيف ينظر المغتربون إلى وطنهم الأم المعذّب، وكيف يمكنكم أن تساهموا في نهضته وفي نهوضه من كبوته.
هذه الأسئلة كانت تربكني وأنا الآتي من بعيد البعيد، ولكنها كانت في الوقت نفسه تؤلمني. كانت تربكني لأني كنت أعتقد أن الأجوبة عن هذه الأسئلة كان يفترض أن تأتي من الداخل، على تنّوعه وفرادته وشموليته وتعدّده، من حيث الأهواء التي تقسم هذا البلد، الذي لا يشبه أي بلد آخر.
وكانت هذه الأسئلة تؤلمني لأني تأكدت أن من هم في الداخل يتكلون دائمًا على الخارج، حتى ولو كان هذا الخارج أقرب إلى لبنان من بعض اللبنانيين، الذين لم يقتنعوا بعد أنه إن لم يبنِ ربّ البيت فعبثًا يتعب البناؤون.
هذه الأسئلة آلمتني لأني تيقنت أن أبناء البلد، في ما يشبه الاجماع، لا يريدون أن يكون لهم بلد كامل الأوصاف والمواصفات، ولا يريدون أن يبنوا مؤسسات ثابتة يمكن التأسيس عليها لسنوات آتية، وقد تكون أصعب من الأيام الحالية.
هذا البعض من اللبنانيين لا يريد أن يكون في لبنان دولة، لأن مفهوم الدولة يعني أن بعض “الدكاكين” الصغيرة والعميقة في الوقت نفسه لا يعود لها صفة احتكارية، ولا يعود لها السطوة نفسها، التي تقوم عليها الآن، ولا يعود المواطن الخاضع لسلطة أصحاب هذه “الدكاكين”، التي تتخذ لها أسماء كثيرة بمضمون واحد، مجبرًا على أن “يسترضيهم” لكي يتمكّن من الحصول على أدنى حقوقه المدنية.
فالمواطنة التي يُحكي عنها الكثير غير موجودة في القاموس اللبناني، لأن الانتماء إلى الطائفة يأتي قبل الانتماء إلى الدولة، التي يدعو البعض إلى أن تكون مدنية. فهذه الطائفة تأتي في المرتبة الأولى من حيث أولويات اللبنانيين، يليها الانتماء الحزبي على أساس أن كل ما تقوله هذه القيادة الحزبية هو الصح فيما ما يقوله الآخرون هو الغلط بعينه.
بهذه الروحية لا يمكن أن يُبنى وطن ولا دولة، بل يبقى لبنان “تجمّع مزارع” لا قاسم مشتركًا بينها سوى الانتماء إلى طبقة الفقراء الموجودين في كل مزرعة من هذه المزارع، التي أصبحت أشبه بتعاونيات استهلاكية من دون هدف.
هذه الأسئلة أربكتني وآلمتني وحتى أبكتني. وما آلمني أكثر أنه لم يكن لدي الأجوبة الشافية. فما يمكن أن أقوله أو أن يقوله أي مغترب يقصد وطنه الأم ليطفئ ما في قلبه من حنين، لا يمكن أن يفهمه سوى من أضطرّ لأن يترك بلده، الذي ضحّى في سبيله بالكثير الكثير من جنى العمر، وحتى بحياته في كثير من الأحيان.
ليس صيحًا أن كل من هاجر أو تغرّب عن تراب الوطن هو جبان، وليس لأنه أراد أن يكون وطنه فندقًا، وهو الذي عاش ردًا من الزمن في خنادق السياسات الرعناء.
ليس صحيحًا أن من أجبرته الظروف إلى طلب العيش بعيدًا عن وطنه لا يعرف ما هي المواطنة الحقيقية.
فالمغتربون، وأنا واحد منهم، يدركون أن لبنان سيبقى معلقًا على خشبة الصليب ما دام فيه مسؤولون لا يفكرّون سوى بمصالحهم الخاصة، وبما يمكن أن يحقق لهم أهدافهم الذاتية، وهم غير آبهين بما يجري لهذا الشعب المتروك من دون رئيس. وهو أمر لا يحصل سوى في لبنان.
هل تريدون أن تعرفوا كيف يرى هؤلاء المغتربون، الذين ينتمون إلى كل الطوائف، مستقبل وطنهم، فتشّوا عما حقّقوه من نجاحات حيث يعيشون، وحيث يكافحون في مختلف بلاد الاغتراب، التي تقدّر أهمية المواهب وتعمل على ابرازها وصقلها.
هكذا تُبنى الأوطان وليس على بعض الشعارات الرنانة والضفاضة.