على نحو تهويل “الممانعة” على اللبنانيين وعلى المجتمع الدولي في آن واحد، بافتعال اضطرابات أمنية وفوضى عارمة، بغرض الابتزاز والتخويف من تداعيات أمنية قد تصل إلى ما يشبه الحرب الأهلية.. لا لشيء سوى لفرض الشروط السياسية وإخماد الانتفاضة الشعبية وتثبيت الأمر الواقع، كذلك تفعل العونية الباسيلية منذ سنوات في ابتزاز اللبنانيين والمجتمع الدولي (والأوروبي تحديداً) بقضية اللاجئين. فهي تارة مادة تحريضية تخويفية لتحصيل شعبية إضافية قائمة على خطاب الكراهية والعنصرية، وإلقاء مسؤولية كل الأزمات على عاتق “الغرباء”، كعادة كل التيارات الفاشية والغوغائية وأحزاب اليمين المتطرف، على مثال الحزب الحاكم في هنغاريا التي زارها باسيل مؤخراً، وطوراً هي مادة ابتزاز سياسي ضد الخصوم المحليين، وغالباً هي مادة تهويل علني بوجه الدول الأوروبية على مثال كلام رددته الألسن العونية مراراً برمي اللاجئين في البحر المتوسط أو عدم قدرة الدولة اللبنانية على ضبط الهجرة غير الشرعية.
والحال أن قضية اللاجئين هي واحدة من أكثر الخدع السياسية التي يمارسها التيار العوني إلى حد الابتذال. فهو يعرف أن هؤلاء مسجلين في قوائم الأمم المتحدة. وبالتالي هناك مسؤولية حقوقية تحتم على الأمم المتحدة أن تسعى إلى ضمان حياتهم وغذائهم وحاجياتهم وشروط كرامتهم الإنسانية، كما تسعى إلى توفير عودة آمنة وطوعية لهم، من غير مجازفة برميهم في فم الأسد (حرفياً ومجازياً). بمعنى أن أي لاجئ مسجل لدى الأمم المتحدة في حال قسره على العودة أو عدم ضمان سلامته عند عودته، وتعرضه للاعتقال أو القتل، يرتب هذا الأمر دعاوى قضائية ومحاكمات تطال الأمم المتحدة ومؤسساتها.
الأمر الأكثر وضوحاً عند التيار العوني ولدى الحكومة اللبنانية، ووفقاً لكل الدراسات التي أجرتها مؤسسات بحثية أكاديمية، برهنت أن المساعدات التي تصل إلى لبنان والموجهة لرعاية اللاجئين تضخ ما يوازي ملياري دولار. وهي أموال تذهب إلى مؤسسات مدنية وأهلية وبلديات وجمعيات غير حكومية، ويتم إنفاقها في لبنان، بما يعود بانتفاع كبير على لبنان. وهذا لا ينفي أن هناك أعباء تقع على عاتق المجتمعات المحلية المضيفة، ولا ينفي الحاجة الملحة للمزيد من المساعدات المالية بما يساعد الدولة في تحمل أعباء البنى التحتية: الكهرباء، مياه الشرب، المجاري، المساكن، الخدمات العامة، الرعاية الصحية والتربوية..إلخ، لكن هذا أمر مختلف تماماً عن النهج العوني الذي يريد وضع اليد على المساعدات وعدم تسليمها مباشرة للجمعيات، وهو الأمر الذي ترفضه أوروبا والأمم المتحدة ليقينهما من شدة الفساد الذي يعتري إدارات الدولة بل وعجزها عن القيام بهكذا مهمة.
أما بخصوص الهذر العوني عن تسبب اللاجئين بالبطالة، فالسيدة العونية الأنيقة التي وقفت أمام سفارة الاتحاد الأوروبي، ضمن الاعتصام المفتعل يوم الجمعة 29 تشرين الثاني، لترطن بهذا الكلام، لا تبدو مرشحة للعمل في حقول البطاطا أو أن تكون ناطورة بناية أو حاملة لأحجار الباطون فوق سقالة.. وكذلك الأمر بالنسبة للاجئين الذي لا يتاح لهم إطلاقاً أن يكونوا أطباء أو مهندسين أو موظفي بنوك أو حتى سائقي سيارات أجرة. وجميع اللبنانيين يعرفون حق المعرفة ومنذ عقود طويلة قبل اللجوء، ما هي المهن التي يزاولها السوريون في لبنان، وغالباً ما يعزف عنها الشبان اللبنانيون. ثم أن الأزمة الاقتصادية وتوقف الأعمال طالت أيضاً اللاجئين أنفسهم، بعدما ندر الطلب على الأيدي العاملة. وهناك إشارة لا بد منها هي الاستفادة الهائلة إلى حد الاستغلال الفادح لرخص الأيدي العاملة السورية، بما يفاقم أرباح أصحاب العمل اللبنانيين، ويراكم رساميلهم.
وهناك أمر آخر يسكت عنه الباسيليون العونيون، هو صلة “الصداقة” التي تجمع صهر الرئيس ببشار الأسد، عدا التحالف “الاستراتيجي” مع حزب الله، وكيف أن تلك الصداقة وذاك الحلف لم يفلحا في إقناع النظام السوري في توفير الشروط والضمانات لعودة هؤلاء اللاجئين. بل وكيف أن النظام يطلب “لوائح” إسمية بمن يرغب بالعودة، وغالباً ما يرفض معظم الواردين في اللوائح، بل ولا يتورع النظام عن وعيده لمعظم اللاجئين بمعاقبتهم واعتقالهم فور عودتهم، ويضع القوانين التي تتيح له مصادرة أملاكهم وأراضيهم.. إلخ.
كذبة الباسيلية في قضية اللاجئين تأخذ وجهاً كالحاً، وعلى نحو متعمد، إذ يدرك “فتى العهد” أنه باللغة التي يتحدث فيها عن اللاجئين الفائحة بالعنصرية، إنما يستهدف بجلاء المسلمين اللبنانيين عن سابق تصور وتصميم. ومغالاته بالتخويف ورفع فزاعة التوطين ليس من ورائها سوى إثارة توتر وقلق وهواجس المسيحيين وإثارة حفيظة المسلمين لشعورهم أنهم متهمين بالتفريط بالهوية اللبنانية. وهذا الأمر شبيه بمشهد الشبيحة على جسر الرينغ الذين استماتوا في شعارات الغرائز المذهبية، تواقين إلى “جواب” مقابل من الصنف نفسه، بما يبرر للفتنة أن تنفجر.. ولا عزاء للثورة المدنية السلمية العابرة للمناطق والطوائف.
إذاً، على غرار أسلوب حزب الله في إثارة القلاقل الأمنية وإفلات الشبيحة بين الحين والآخر، لضرب الثورة من جهة، ولحجز الشيعة وأسرهم من جهة ثانية، بعيداً عن رحابة الوطنية اللبنانية التي تنبثق الآن كما لم يحدث من قبل.. يسعى باسيل الآن إلى “فتنة” التحريض على اللاجئين طمعاً منه ربما أن تندلع أعمال عنف واعتداءات تجاههم، بما يلطخ أيام الثورة ويفجر فوضى عارمة. وكأن باسيل لم يتعظ من التاريخ ومن خطورة هذه اللعبة حين تحول اللاجئون الفلسطينيون إلى هدف اليمين المسيحي في مطلع السبعينات هرباً من استحقاق الإصلاح والحركات المطلبية ومطالب المسلمين بالشراكة والمساواة، فكان أن تحول السلاح الفلسطيني إلى عامل تفجير أودى بلبنان كله.
على كل حال، لم يكن الأمر سيئاً جداً. فالاعتصام الذي دعا إليه “العونيون الباسيليون” أمام سفارة الاتحاد الأوروبي، بالكاد جمع العشرات، بما يمنحنا فكرة واضحة عن الضمور الدراماتيكي لهذا التيار، الذي بات لا يجرف قشة لشدة استنقاعه وخموده. والأهم أن الرد الثوري جاء فورياً وحاسماً بما يفرح القلب ويطمئننا أن تهافت الباسيلية وخواءها منذ 17 تشرين الأول، بات مؤكداً على نحو مبهج.