هل ما حصل مساء السبت الماضي وليلة الأحد من اعتداء على الناس المسالمين في شوارع بيروت من زمرة بات مشهدها مألوفًا، تحت أنظار قوى الشرعية المولجة بحفظ الأمن، رسالة إلى من سيكلّف تشكيل الحكومة في الاستشارات النيابية؟ سواءٌ بقي موعد الاستشارات اليوم أم التحق بمسار استئخاره إلى أزمة حُكم مفتوحة. القوى الأمنية نفسها استخدمت عنفًا قاسيًا، وتركت المعتدين يمارسون هوايتهم الشنيعة تكرارًا بلا رادع. الرئيس سعد الحريري الذي يصرّ خصومه من “حزب الله” وحلفائه على تكليفه مهمّة تأليف حكومة تكنو – سياسية، مصرّ بدوره على تأليف حكومة اختصاصيين. وقد أعلن ذلك مرارًا. ما معنى هذا المشهد السوريالي؟
في اختصار. لا حكومة. وثورة الشعب اللبناني السلمية الحضارية في شهرها الثاني، “يتكفلها الحزب وحركة أمل”، بنسخة الاعتداءات الأخيرة المسكوت عنها من القوى الأمنية. وبالشراكة مع الأفراد المعتدين أحيانًا. بات المسروق يدافع عن السارق. والمظلوم يدافع عن الظالم. و”هل أظلم من عبد اذا ساد، أو أحقر من سيد اذا اسُتعبِد”؟ على ما قال الإمام علي بن أبي طالب. مسلسل العنف ضد الشعب، المسكوت عنه رسميًا وبأدوات حكومية، أخطر تحول في مسار الأزمة. لو استمرّ لدخلت البلاد في منعطف أسود على النمط العراقي – الايراني. أعداد الضحايا والشهداء والجرحى هناك، بحجم حرب بين دولتين. ومثلهم أو أكثر، أعداد المعتقلين والمختفين بلا عناوين وأمكنة. والكل موقنٌ، أنه نمط مستحيل في لبنان عبر تاريخه. شباب ثورة لبنان وشابّاتها وشيبها وعمّالها وطلّابها، ونخبها الثقافية والأكاديمية، خرجوا في مئوية لبنان في الألفية الثالثة، من أجل أهداف سامية نبيلة، ليعيدوا بناء دولة تستحقهم ويستحقونها. ولن يخلوا الساحات خائبين. يعوزهم الاطار المؤسسي. لكن وحدتهم لم تتصدّع بعد. يعوزهم البرنامج ولا تعوزهم الأهداف والمطالب. هؤلاء لا يُسلبوا الحرية والرغيف معًا. لم ينجح هذا الأسلوب حتى في أعتى الدول التوتاليتارية المتخلفة. ولا يمكن إقصاؤهم عن المشاركة في عملية سياسية. وبناء دولة وسلطات عصرية وتحررية وسيادية. بمؤسسات يحمكها الدستور والقوانين العادلة. وقضاء مستقل، وقضاة شجعان ميامين في وجه سلطة سياسية فاسدة ومنحطة. جذورها في الخارج وأرجلها في الهواء.
انتهت اللعبة
لقد انتهت لعبة الطوائف والمذاهب سبيلًا للسلطة. وجلبابًا لتغطية طغمة السارقين والفاشلين والمستكبرين. الثورة لم تطرح مطالب اقتصادية واجتماعية ومعيشية فحسب. ولا وجوب استعادة الأموال المنهوبة من اللبنانيين وأسرهم ومستقبلهم. ودولة موفورة السيادة في وجه كل الطامعين فقط. بل وإحداث تغيير جذري في النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي. لأن تحقيق كل ما ورد يتصل بهيكل النظام العصيّ في وجه المطالب، وتوفير الخِدمات الحياتية اليومية والانسانية، المتوفرة في موزمبيق، وغينيا بيساو، وأفريقيا جنوب الصحراء، وغيرها من الدول في أسفل لائحة التنمية البشرية والحكم الرشيد. أكثر مما هي متوفرة في بلادنا، المصنّفة في الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل الفردي إلى الناتج المحلي. وتزخر بالموارد البشرية المميزة، التي نفخّر بتصديرها إلى الخارج. ونتعدّ بتحويلاتها المالية لتمويل نظام سياسي زبائني وفاسد وقوميسيونجي. بدلًا من اعادة تثميرها في الاقتصاد الحقيقين والتنمية، وفرص العمل. النظام السياسي يحترب من الداخل. لم يمت لأن الموت لم يأتِ بعد. لكنه توقف عن العمل. وعبثًا يعتقد أصحاب الرؤوس الحامية، أن قمع ثورة الشعب اللبناني، الوسيلة الأنجع لاستدامة الواقع ومحنته. لأنهم يدفعون الوطن إلى منزلق وخيم. هم قادرون على إحداث الفوضى والانهيار الكامل في البلاد. لكن مآلهم إلى خيبة. والشعب سينتصر في النهاية. ومستعد لدفع الثمن، إذا كان فيه خلاص من محنة وطن. وإذ اختارت الثورة السلمية لتحقيق مطالبها، تكون قد اختارت سلفًا وسيلة تغيير النظام واصلاحه ضمن آلياته الدستورية. أولها الانتخابات النيابية على أساس قانون نسبي جديد خارج القيد الطائفي ولبنان دائرة واحدة. هل هذه القضية مستحيلة وقد لجأت اليها وتلجأ دول كثيرة حين مواجهتها مشكلات سياسية. ونحن في مندرج الانهيار والفوضى.
لم يعد يعني تأليف الحكومة المهم بمقدار استجابة الحكومة لما يريد الأميركي من عدمه. قال رئيس كتلة “حزب الله” النيابية النائب محمد رعد. نحن نعلن تضامننا مع “حزب الله” ضد الإمبريالية الأميركية. لكن ما علاقة لبنان بالصراع الدائر بين واشنطن وبين طهران الذي يعتبر الحزب لبنان جزءًا لا يتجزأ منه؟ وكيف يعدّ الحزب لمنع انهيار لبنان نهائيًا، ماليًا واقتصاديًا واجتماعيًا؟ أوَ ليس الانهيار وتمزيق الدولة والمجتمع اللبناني يكشفان لبنان لقمة سائغة في وجه “الشيطان الأكبر” والعدو الصهيوني؟ أسئلة لا تحتاج إلى راسخين في السياسة والاحتراز الوطني والغيورين على جبه المؤامرات على لبنان. لبنان بلا حكومة قادرة، نظيفة وموثوقة من الشعب، بات فاقد الحيلة ومسخرة في نظر دول العالم.
الوَكران
مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الاوسط ديفيد شنكر بشّرنا في حديثه لـ”النهار”، بأن “التوقعات للبنان رهيبة. واذا لم تتوفر العملات الأجنبية سيكون من الصعب على لبنان أن يشتري الأدوية من الغرب. ونحن نتطلع إلى تقديم المؤسسات المالية الدولية قروضًا قصيرة الأجل إلى شركات معينة توفر الخدمات الاساسية. وتحديدا الخدمات الصحية وتوفير الأغذية. هذه مساعدات وتسهيلات سوف تكون خاضعة للمراقبة ولن تقدم إلى الحكومة”. يُفهم من الكلام أن واشنطن ستقدم تمويلًا للشركات المستوردة أدوية وليس للحكومة اللبنانية. لأن الحكومة الأميركية كما قال شينكر “تقبل ما يريده الشارع اللبناني. المتظاهرون عبّروا بحكمة وواقعية عما يريدونه. وهم يعرفون ما هي الحكومة القادرة على الاصلاح ومكافحة الفساد”. وأكّد على أنشطة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية التي تنفق في لبنان مساعدات بقيمة مئة مليون دولار سنويًا، بالتعاون والتنسيق مع المؤسسات اللبنانية غير الحكومية”.
لا نحتاج إلى المسؤول الأميركي كي نصلح ما في أنفسنا. لكن هل نشيطِن الثورة ونؤبلِس الشعب لأنهما “حظيا ببركة” شينكر وحكومته! قالت الثورة ما نسب إلى طاغور. “لا تستطيع أن تمنع طيور الأسى من أن تحلّق فوق رأسك. لكنك تستطيع أن تمنعها من أن تبني عشّها فيه”. الشعب اللبناني الثائر يريد الانقاذ لوطنه. ولم يبنِ عشّا ولا وَكرّا للطيور الأميركية ولغيرها في لائحة مطالبه. ولا خلاصه بالوَكر الايراني ومشروعه في المنطقة. بيروت ليست بغداد وطهران.