يُعرف عن محافظي المصارف المركزية إبتعادهم عن “الشعبوية”، وهذا أحد أسرار النجاح. إذ يعملون بصمت للحفاظ على الإستقرار النقدي، وحماية أموال المودعين، ومراقبة القطاع المصرفي، ومحاربة التضخم، وتحديد حجم الأموال المتداولة في الأسواق والاقتصاد وإدارة الدين العام. لكن، في مقابل مبادرة الحكومات إلى توفير مناخ سياسي مستقرّ وشفاف، مدعوم بتدابير حازمة لمكافحة الفساد وسنّ تشريعات محفزة لبيئة الأعمال والإستثمار…
في لحظة صادمة، أراد لبنان خوض تلك المغامرة. لكن، هل درس رئيس الحكومة حسان دياب، تداعيات هجوم غير مسبوق، ومن على منبر بعبدا الرئاسي، على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة؟ وهل فعلا طرح مسألة الإقالة لينسحب الشغور على مصرف لبنان بكافة مؤسساته وأجهزته بعد الفشل الذريع في الاتفاق السياسي على التعيينات المالية؟
واقعة “الهجوم الديابي”، فرزت اللبنانيين بين مؤيدين ومعارضين إنطلاقا من إنتماءاتهم لمعسكري سياستين لا تلتقيان على هوية لبنان السياسية ولا على مدرسته الإقتصادية. هذا ما حال دون أن يفقه معارضو سلامة ما يقوم به لتأجيل الإنهيار الذي كان حتميا قبل نحو عقد، ويجهد اليوم لتضييق حلقات الخسائر بعد تفجّر غضب الثورة وتدهور الأحوال السياسية والمالية، الى أن اتخذ دياب على عاتقه قرار التوقف عن دفع ديون لبنان في “تعثر غير منظم”، ساهمت ضربة “كورونا” في إرجاء تداعياته على المفاوضات مع الدائنين.
ماذا يعني أن تقتحم الحكومة حسابات مصرف لبنان؟ وما المبررات التقنية غير تلك “الشعبوية” التي غلبت في هجمة دياب؟
كانت الحكومة الطرية العود والعديمة الخبرة الإقتصادية، باستثناء وزراء قلة على رأسهم وزير المال غازي وزني، تحاول قراءة التدهور لايجاد حبل نجاة يوقف الإنزلاق. وكانت تتفهم حركة مصرف لبنان التي تفلتت من يدها، أي ضوابط لسوق صرف ازدحم فيها اللاعبون، منهم المضارب الطبيعي سعيا لتحقيق مكاسب سريعة، ومنهم الإستراتيجي السياسي رغبة في قلبٍ للمشهد الاقتصادي ينقل لبنان من ريعان الحرية الاقتصادية الى قضبان الإقتصاد الموجه والمؤمم.
قيل إن التعاميم الأخيرة هي التي قصمت ظهر بعير دياب الذي لم يمعن جيدا في قراءة المضامين، وربما هو محق بذلك، نظرا الى اللغة التقنية التي تغلب عليها. لكنها في الواقع، استهدفت “السماح للعميل بقبض التحويلات الواردة عبر شركات تحويل الاموال بالليرة”، و”السماح لصغار المودعين بقبض ودائعهم تحت الـ3 الاف دولار بالليرة بسعر الصرف”، و”السماح للمودعين بالدولار بسحب 5 الاف دولار شهرياً بالليرة بسعر الصرف”. وبكلام آخر، استهدفت تعزيز قدرة مصرف لبنان بالدولار، ليتمكن من تلبية حاجات الاقتصاد وخصوصا عمليات استيراد المواد الأساس، مثل القمح والمحروقات والدواء ومن بعدها طلبات قطاعات عدة، تلبية لرغبة الحكومة وسياساتها…
وهذا يعني، ان المركزي بات هو الممسك بالعملة الصعبة، أي الدولار، ليكون الاقتصاد هو المستفيد الأوحد بدل الاقتصاد الموازي الذي نشأ على خط “صيارفة الضاحية الجنوبية”، بدليل الطلب المفتعل على الدولار الذي أشعل ليلة القرار بمهاجمة مصرف لبنان الذي بات يضخّ الليرة في السوق ليجمع الدولارات بغية دعم حاجات الإستيراد… فهل من جريمة في تسجيل مكسب يريح الإحتياطي الأجنبي من الإستنزاف ويبقى قادرا على توفير الدعم المطلوب في هذه المرحلة؟؟؟
لقد طلب دياب من الحاكم مصارحة الناس. حسنا، وهكذا سيفعل منتصف هذا الأسبوع. لقد طلب دياب تكليف شركات تدقيق عالمية (وكأن “ديلويت” و”إرنست آند يونغ” هي شركات لبنانية) بغية الكشف على حسابات مصرف لبنان وميزانياته. حسنا، ستنفذ الشركات مهمتها لقاء بدل مادي، وستعلن المعلوم، وتحديدا لجهة إنفاق نحو 47 مليار دولار على قطاع الكهرباء وحده…
لقد أراد حسان دياب إحصاء الخسائر في مصرف لبنان، ولم يدرك ان هجمته ستخلف تداعيات أبعد من حدود المصرف محليا. لقد أغرق المشككين بوابل من الإتهامات القاتلة لهيبة السلطة النقدية ولدورها، كما للقطاع المصرفي الذي تحتاجه “حكومة الإنقاذ” لتمويل عملية النهوض الاقتصادي.
لقد أراد حسان دياب إلهاء اللبنانيين عن أزماتهم المستجدة والتي ستواصل شد الخناق على معيشتهم ووظائفهم ومستقبلهم في بلد تحوّل “بيت رعب” بفعل المستجات. لكن، لا ينفع أحوال اليوم، سياسات مماطلة أو إلهاء تمريرا لإستحقاقات إقليمية ودولية قد تمتد إلى الشتاء المقبل، من أجل تحرك إنقاذي يفترض أن يبدأ بإتصال يجريه دياب مع صندوق النقد، ليفتح وفق الأصول، قنوات التفاوض على برنامج مالي، وليفي بذلك وعده للبنانيين بأنه قادم لإطلاق ورشة الإنقاذ، بدل أن يقبع في دائرة التوصيف بأنه وديعة في الحكومة.
لن ينفع الهجوم على رياض سلامة لأنه محصّن بإنجازات تروي قصة صمود الليرة على مدى أربعة عقود رغم العواصف السياسية، وما سقوطها اليوم إلا بفضل إنجاز وحيد سطرته حكومة دياب حين سجلت سابقة مع إعلان لبنان “دولة متعثرة”.
ما وراء تحرك دياب.. الهجوم على رياض سلامة لن ينفع؟
كتبت فيوليت غزال البلعة في “Arab Economic News” تحت عنوان ” لن ينفع الهجوم على رياض سلامة”: ” رغم العرف المصرفي المطبق في كافة أنحاء العالم، بادرت حكومات إلى عزل محافظي مصارفها المركزية، متجاوزة دورها في سنّ تشريعات تنصّ صراحة على إستقلالية تلك المصارف ومنع إقالة محافظيها. فوفق الأعراف عالمياً، فأن ارتكاب “حماقة” عزل محافظ المصرف المركزي، “جريمة” يعاقب عليها القانون، وترقى أحيانا إلى “جناية”، لأن العزل يشكل خطراً شديداً على الإقتصاد والقطاع المصرفي وأسواق المال، وأكثر، يطال إستقرار البلد ككل، لأن المصرف المركزي هي “ترمومتر” الإقتصاد، يأخذ قراراته بحيادية موضوعية وطبقا لقواعد وأسس فنية بحتة لمصلحة الاقتصاد ككل، فيما تلجأ الحكومات الى ما يرضي الرأي العام والناخبين.