تحولت مباني الخرطوم ومصانعها ومستودعاتها إلى أكوام من الحديد المنصهر والمتفحم، وأصبحت منطقة بحري الصناعية الرئيسية شمال الخرطوم ساحة معركة، وتعرضت الصناعات الرئيسية للقصف الجوي والنهب المتكرر منذ اندلاع الحرب في 15 نيسان بين القوات المسلحة السودانية التابعة للواء عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع التابعة للجنرال محمد حمدان دقلو المعروف باسم “حميدتي”، وهو ما أودى بحياة أكثر من 1800 شخص وخنق اقتصاد البلاد.
ونشرت صحيفة “لوموند” الفرنسية تقريراً نقلت فيه عن منى ميرغني، مديرة الموارد البشرية في مجموعة حجار التي تأسست عام 1904، وهي منتشرة في كل مكان في الزراعة والطاقة والتكنولوجيا، قولها: “تعرض مقرنا في البحري للنهب واقتحام الخزائن وسرقة المركبات. ومرة أخرى كنا محظوظين”.وفي المنطقة الصناعية، اندلعت أعمدة الدخان من المرافق المجاورة لشركة كوكاكولا، وكذلك شركة “ساميل فوودز”، الشريكة لمجموعة Nutriset الفرنسية، والتي أنتجت آلاف الأطنان من معجون الفول السوداني لمكافحة سوء تغذية الرضع، ومستودعات شركة “Sayga”، أكبر مصنع للدقيق في السودان.وأوضحت الصحيفة أن شركة حجار أعلنت في 29 أيار تعليق جميع أنشطتها واستثماراتها، كما أغلقت عشرات الشركات الرائدة في الاقتصاد السوداني أبوابها، ما أدى إلى تدمير عشرات الآلاف من الوظائف في جميع أنحاء البلاد، فلم يعد القطاع الخاص ولا الإدارات العامة تدفع أجور موظفيها، وتجمدت المعاملات المالية بعد نهب البنوك وإلحاق الضرر بشبكات الكهرباء والاتصالات.”عسكرة جميع قطاعات الاقتصاد”واعتبرت الصحيفة أن السودان، ثالث أكبر دول أفريقيا، على مفترق طرق رئيسي، حيث أصبحت الموارد الطبيعية المهمة التي تشكل العمود الفقري لاقتصاده (مثل الذهب، والصمغ العربي، والسمسم، والماشية، والزيت) الآن تحت رحمة حرب متعثرة، فالصادرات معلقة، وتم تعليق الحركة الجوية، والطرق الرئيسية غير سالكة لنقل البضائع. وعلى الرغم من أنها نجت من القتال، فإن البنية التحتية لميناء بورتسودان – والذي يمر من خلاله ما يقرب من 80٪ من التجارة الوطنية – مشلولة.ونسبت الصحيفة للدكتور حسن بشير، أستاذ الاقتصاد بجامعة النيلين، قوله: “نحن ندفع اليوم أكثر من أي وقت مضى ثمن التركيز الشديد للاقتصاد في العاصمة وعدم تطوير الأطراف الناجم عن عقود من القوة العسكرية”، حيث تقدَّر حجم الخسائر حتى الآن بأكثر من 3.4 مليارات دولار.وأشارت الصحيفة أنه رغم انهيار الاقتصاد، يظل الجيش وقوات الدعم السريع أرباب العمل الرئيسيين في البلاد، حيث إن لديهم أصولا مالية كبيرة في جميع المجالات، من استخراج الذهب وموارد النفط إلى الزراعة والبناء والاتصالات، ما يمكنهم من دفع رواتب الآلاف من رجالهم.وفي العام 2020، أعرب رئيس الوزراء – حينها – عبد الله حمدوك عن أسفه لأن ما يقرب من 80% من الموارد يسيطر عليها الجيش وأعوانه، وذلك خارج سيطرة حكومته، فيما قالت الباحثة المستقلة سلمى العبيد: “عسكرة جميع قطاعات الاقتصاد تهدد بإطالة أمد الصراع”.تحت العقوبات الأميركيةوبينت الصحيفة أن عدداً من الخبراء يرون أن إحدى الطرق القليلة لممارسة الضغط على المتحاربين وتقليل القتال بينهم تتمثل في قطع شبكات التمويل الخاصة بهم. وكانت الولايات المتحدة أول من أخذ زمام المبادرة، ففي يوم الخميس 1 حزيران، أعلنت عن عقوبات تستهدف أربع شركات رئيسية يسيطر عليها الجيشان، وذلك عقب تعليق المحادثات في جدة بسبب الانتهاكات الصارخة والمتكررة لوقف إطلاق النار.ووفق الصحيفة، فقد شملت العقوبات شركة “إنجتون” الشركة الأم لشركة الصناعات الدفاعية، والتي لديها مئات الشركات التابعة التي تصنع الذخيرة والأسلحة الصغيرة والمركبات العسكرية، بالإضافة إلى مجموعة التقنيات الرئيسية السودانية، أو المعروفة باسم “جياد”، والتي تنتج أسلحة لقوات الدعم السريع.وللوصول إلى الفصائل شبه العسكرية، استهدفت وزارة الخزانة الأميركية شركة “الجنيد” برئاسة عبد الرحيم دقلو شقيق الجنرال “حميدتي”، والتي تعتبر حجر الزاوية لإمبراطورية التعدين لعشيرة دقلو، التي تقدر إيراداتها بنحو 400 مليون دولار سنويًا، معظمها من صادرات الذهب إلى دبي. كذلك، استهدفت العقوبات أيضاً شركة “ترايدف” للتجارة العامة ومقرها الإمارات، ويديرها الجوني دقلو الأخ الأصغر لـ “حميدتي”، والتي تعمل بمثابة واجهة مالية لأنشطة قوات الدعم السريع.دولة ذات عسكرة فائقةونقلت الصحيفة عن حافظ إسماعيل، الخبير الاقتصادي، قوله: “إن العقوبات ستكون فعالة على المدى المتوسط. فكلا الجيشين يعتمد الآن على مخزونه، وهذا سيسمح غدًا بتجفيف مصادر إمدادهما”، كما يريد الخبير الاقتصادي حافظ إسماعيل. غير أن الكثير من السودانيين لا يزالون متشككين، فقد كان للعقوبات التي فرضها البيت الأبيض عام 1997 على نظام عمر البشير – والتي استمرت عشرين عامًا – تداعيات على السكان قبل كل شيء دون إضعاف السلطة حقًا، فكما قالت منى ميرغني: “إنه ليس سلاحًا سحريًا. فلقد وجد الجميع طريقة للالتفاف حول العقوبات”، مضيفة: “بعد تدريبهم على إستراتيجيات تجنب الحظر الدولي، يمكن للجنرالات اللجوء إلى المزيد من المعاملات غير القانونية والتهريب”.واختتمت الصحيفة التقرير برأي مجدي الجزولي، الباحث في معهد ريفت فالي، والذي قال: “إذا استمر الصراع، فسنشهد ظهور اقتصاد نهب الموارد، على أساس السيطرة على مناجم الذهب، والنهب، وسرقة الماشية، كما هو الحال في جنوب السودان”. ويبدو أن الجيشين المتنافسيْن قد راهنا على نصر سريع، لكن مع استمرار الصراع؛ يبدو أن الجنرالات قد أهملوا في خضم الحسابات العسكرية، أعصاب الحرب: الاقتصاد؛ حيث يؤكد الدكتور حسن بشير أن “من يفوز فإنه سيحكم على كومة من الخراب”، وأن السودان سيحتاج إلى سنوات للتعافي من هذه الحرب. (عربي21)