منذ ثلاثة أشهر يتهافت الناس على المصارف هلعين غاضبين لسحب ودائعهم منها. فمصارف لبنان تحولت فجأة من عنوان الأمان الأخير في البلاد، إلى المصدر الأول للقلق والغضب، والحجر على الأموال.
صناعة السعادة
ولطالما نسّقت المصارف لزبائنها وودائعهم برنامجاً اقتصادياً تكتيكياً، هدفه ضمان بقاء العميل واستمراره، والسعي لتحصيل أكبر قدر ممكن من الأرباح. وعلى مدى سنوات مضت تنافست المصارف على تقديم أهمّ الخدمات والعروض لزبائنها: قروض سكنيّة، قروض سفر وسياحة، قرض السيارة، وصولاً إلى قروض عمليات التجميل النسائية، قروض الدراسة، قرض الزفاف، وتأمين خدمات توفر للعملاء خزنات تخولهم تخبئة المجوهرات والمقتنيات الثمينة، بدل من إبقائها غير آمنة في المنازل.
وفي ماضٍ قريب تميزت مصارفنا بحلةٍ مغايرة لما هي عليه اليوم. فلطالما كانت صورة المصرف أنيقة زاهية، مليئة بالألوان، وتوحي بالثقة والطمأنينة. وكانت شاشات التلفزة التي أخذت إعلاناتها تقتصر تدريجاً على إعلانات المصارف، التي تضج بالحياة وصورها البهية الزاهية. حياة سعيدة سعادة كاملة، لا تشوبها شائبة، تماماً كما في الصور والإعلانات والأحلام. كلُّ من في تلك الإعلانات كلها كان مبتسماً فرحاً، مقبلاً على الحياة، طموحاً، هانئاً، مطمئناً على مستقبله، مدركاً طريقه، راضياً عن خياراته. إعلانات لأناسٍ يستمتعون برحلات سفرهم، أو لعجزة يتنزهون في حديقة منزلهم الوارفة، أو لطلابٍ يختارون تخصصاتهم الجامعية بكل حماسة وثقة.
الأحلام الضائعة
كانت تصطف كتيبات خدمات المصارف (البروشور) في إحدى زوايا فروعها. يحرص العاملون على وضعها في مكان مرئي، وبمتناول العملاء. كتيبات إعلانية تندرج فيها كل تقديمات المصرف. ولطالما كان لهذه الكتيبات الإعلانية زبائنها ومريدوها الذين يقتربون للاطلاع على محتوياتها، إن من باب الفضول، أو لترتيب الأولويات الحياتية.
وغالباً ما كان الشخص الحالم، الطامح لتحسين وضعه واستغلال تقديمات المصرف، هو من يتقدم لتناول هذه الكتيبات الإعلانية.
أما اليوم فصار من تمتد يده إليها مدعاة للسخرية والدهشة. ففي بلدٍ لم يعد المودع يستطيع سحب مدخراته المصرفية، لا بد من أن يكون المقبل على طلب قرض مصرفي شخص خارج المعادلة، أو في ما يشبه غيبوبة. فالمصارف أوقفت منح القروض، لندرة السيولة بالدولار لديها. والعمل بخدمات القروض لم يعد مجدياً، بعدما بذلت أقسام العلاقات العامة فيها، وكتيباتها الإعلانية، جهودها كلّها لتحقيق أكبر قدر ممكن من أحلام عملائها، مستغلة غياب الدولة وتقديماتها وواجباتها تجاه مواطنيها، لتطرح نفسها بديلاً عنها: حرصاً على “راحة بال” العملاء، على ما يقول إعلان أحد المصارف. وأجهزة الدولة ومؤسساتها بدورها لم تعر هذا الأمر أي إهتمامٍ على مدى سنوات.
شكّل هذا “الإهمال” إلهاماً للمصارف ومادة دسمة لتحصيل الأرباح. ويمكن القول أنه إهمال متعمّد لتوفير الفرص للمصارف كي تستمر في نهجها. فعندما يغيب ضمان الشيخوخة عن أولويات الدولة، يطرح المصرف آلية مسهلة ومحفزة لتوفير المال اللازم لشيخوخة هانئة. وفيما تعجز الحكومات عن تأمين تعليمٍ مجاني كفوء للطلاب، يطرح المصرف خدمةً “لتجميع” المال اللازم من أجل مستقبل أولادك. وعندما يسيطر الخوف من عدم توفر المال للطبابة، تتعاقد المصارف مع شركات التأمين. وإذا سيطر القلق على مستقبلٍ أولادك تأتيك المصارف بالتأمين على حياتك، كي ينعم أطفالك بالأموال بعد موتك. كل حلقة من هذه السلسلة المترابطة محسوبة لضمان تماسكها وتعقيدها. وكلما كبرت الأحلام استشرست المصارف لتتحول إلى وحشٍ يقتات على الأمنيات.
أما اليوم فأصبح الحلم الذي تمّ السعي لتحقيقه كابوساً حقيقياً يصعب الخروج منه.
وكان لكل كتيّب للإعلانات المصرفية عنوانه الجذاب الذي يلبي حاجة معينة عند العميل. وكان لكل كتيّب طريقته في فنون الإخراج والطباعة، إلى نوعية الورق المستخدم الباذخة ولون الحبر. وهذه كلها تختلف بحسب الفئة والطبقة الاجتماعية المستهدفة.
إضافة إلى القروض هناك البطاقات الائتمانية: البطاقة الذهبية التي تخولك الدخول إلى قاعة الشرف في المطارات، البطاقات الفضية المتميزة بنسبة حسومات معينة عند استعمالها، بطاقات تستهدف العملاء بحسب الجندر والعمر، مثل بطاقات زهرية للنساء بنسبة حسومات على مستحضرات وخدمات تخصهن، أو بطاقات للمراهقين تخوّل الوالدين ضبط مصروف وطريقة استهلاك الأبناء.
في انتظار الجنازة
هذا كله تبخر فجأة بين ليلة وضحاها. وتغير شكل المصارف ولونها. فتحوّلت من مكان للأحلام والفرح، إلى مكانٍ قاتم يبعث الكآبة والغضب: لا ألوان، لا شاشات باهرة، وكأننا في جنازة دفن الأحلام المصرفية، بل رثاء للمصارف نفسها، بل رثاء أنفسنا لأننا صدقنا الأحلام المغوية التي كانت تبيعها. وهكذا صرنا كمن كان يخيط كفنه على مهلٍ في انتظار لحظة الدفن.
الموظفون متجهمون. لم يعد المدير يبالي بضرورة الابتسام للعميل. والمصرف اليوم مكان تجتمع فيه كل الطاقات السلبية: من الخوف إلى الاكتئاب، والشفقة، الحزن، وعنف معنوي ولفظي، وصولاً إلى الجسدي.
الخدمات التي تهافت عليها معظم اللبنانيين للاستفادة منها، وحرصت المصارف على تطويعها لخدمتها، هي اليوم عبء ثقيل. ليس فقط على كاهل المستفيدين منها الذين يواجهون صعوبة في تأمين السيولة اللازمة لتسديد دفعاتها وفوائدها، إنما هي أيضاً عبء على المصارف التي تعلم أن الضائقة المالية التي تمر بها البلاد ستؤخر وربما تحجب تحصيل هذه الديون.