بعد اغتيال رئيس حكومة لبنان السابق رفيق الحريري، في 14 شباط 2005، كان ابنه سعد متلهٍ في عالم الأعمال، وكل ما ليس له علاقة بالشأن السياسي. أتاه خبر قتل والده، ومن هناك، تغير كُل شيء بالنسبة له. لم يعد ابن الرجل الأقوى في لبنان والمحيط، ولا المدلل الذي بإمكانه أن يفعل ما يشاء من دون رقيب. لم يعُد حُرّاً إلى حد ما. طُلب منه أن يرث، فلم يكن أمامه أي خيار آخر، سوى أن يرتدي عباءة كان يعرف تماماً، وكُل من حوله، ومن كان حول والده، أنها كبيرة عليه، كبيرة جداً.
لبس سعد رفيق الحريري عباءة ليحكم. كان والده قبله يحكم ليس بصفته رئيس حكومة فقط، بل أيضاً لأنه الثري صديق الرؤساء ومندوب العرب إلى العالم. كيف يحكم ابنه وهو بربع ثروة وبعائلة مُبعثرة، وبصداقات كوّنها بصفته الابن المدلل للزعيم وليس الزعيم نفسه؟ حينها حتى، لم يكن سعد الابن بحاجة لفحص منسوب المعرفة ولا القدرة على القيادة. لم يكُن بحاجة لصداقات والده ولا لدهائه. صعد زعيماً بإرث كبير جداً كان يكفيه ليفعل الكثير. أو يكفي لكثيرين أن يفعلوا عنه.
الإرث والاستعطاف
دخل الحياة السياسية التي لم يعرفها مطلقاً من بابها الواسع. ابن رجل اغتيل لأنه شكّل في مكان ما خطراً على منظومة بأسرها، على بلدان كانت ولا تزال تريد أن تتمدد وتسيطر وتقمع كُل من يعارض استيلائها على هذا الشرق. دخل وارثاً عبء الدم، دم الزعيم السني الذي سريعاً تحوّل إلى زعيم وطني بعد 14 آذار 2005. دخل سريعاً ليجد إلى جانبه حيتان سياسة ومصالح، وهو الذي لم يعرف من السياسة شيئاً، لكنّه عرف أنه صاحب النفوذ، من دون أن يستثمر هذا النفوذ الاستثنائي.
منذ ذلك الوقت، خاض الحريري معاركه السياسية بصفته الوريث. يمارس السياسة باسم دماء الشهيد. حين يُخطئ يلجأ إليه وحين ينتصر يهديه النصر. بين الربح والخسارة، كانت محطاته مع الثانية أكثر بكثير. بالتالي، كان يلجأ لوالده ليُخفف من الهزيمة أمام جمهوره. نجح كثيراً في استعطاف الناس، لكنه بقي أسير الحالة، أسير الوراثة لفترة طويلة. وطبعاً، لم يكن هو الوحيد المسؤول عن هذه الهزائم، بل في غالبيتها وفي الفترة الأولى، كان يدفع فاتورة خيارات من وقف معه بعد الاغتيال. هؤلاء أخذوا منه كثيراً واستهلكوا مثله وأكثر في دماء رفيق الحريري.
عبء كبير حمله سعد الابن. خصومه/أعداؤه، لم يتركوا له أي متسع من الوقت ليرتاح. فهو يحمل إرث من قُتل لأنه كبر كثيراً. وهو بالتالي هدف. يريدون النيل منه بشتى الوسائل. من حملة ما بعد حرب تموز 2006 إلى 7 أيار 2008 والقمصان السود وانقلاب 2011 ونفيه السياسي. أدرك الحريري أن المعركة كبيرة، وأن الفوز بانتخابات 2009 لن يُلغي إجباره على الذهاب إلى دمشق لينام تحت سقف واحد مع من شارك في قتل والده. هذا لا يأتي ضمن حملة الأعداء. هذه التجربة على قساوتها كانت لأنه أيضاً الوريث الوحيد لرفيق الحريري، ولأن السعودية آنذاك رأت مصلحة في الـ”س – س”، وأن باستطاعتها فصل مسار بشار الأسد عن إيران. هنا أيضاً خسر الحريري ودفع من كيسه، بل من إرث والده. كان يتلقى الضربات من الحلفاء والخصوم كما من الأعداء، من دون أن يكون له لمسة فعلية لا هنا ولا هناك.
اللعب منفرداً
تقريباً، لم يخض سعد الحريري منذ عام 2005 وحتى إقالته من الحكومة في 2011 معركة سياسية إلا وتكبد فيها خسارة ما، كان يعوضها باستعادة ذاكرة الوالد، التي استُهلكت دماءه كثيراً ولسنوات. وبين كُل هذا، لم يعرف سعد الحريري كيف يدير العلاقة مع حلفائه، وبدل التأسيس لتحالف وطني برؤية أوسع من فكرة العدالة، تحوّل هذا التجمع الذي رأسه لسنوات إلى مجموعات سياسية متناحرة تحت الطاولة، متصالحة فوقها على فكرة السيادة والانتقام، فيما الواقع كان يُشير إلى ذهاب كل واحد منهم إلى خيارات ضيقة تُناسبه، فوليد جنبلاط كان أول الراحلين عام 2009 حفاظاً على بيئته الضيقة، ثُم فعل بالمثل سمير جعجع عام 2013 حين هرول لتبني القانون الأرثوذكسي لحسابات مسيحية ورئاسية في آن.
وبين هذا وذاك، وبعد هذين المفصلين، قرر سعد الحريري أن باستطاعته أن يلعب منفرداً، من دون حلفاء “المصلحة”، فذهب إلى سليمان فرنجية ثم فتح خطوطاً مع جبران باسيل وميشال عون. هنا تحديداً، كان في طور الخروج من مرحلة “الدم” إلى مرحلة أخرى، يكون فيها لاعباً سياسياً لبنانياً مثله مثل الباقين.، منذ عام 2015 تقريباً، لم يعد يريد الحريري أن ينتظر أحداً، فهو يعتبر أن باستطاعته رسم السياسة التي تناسبه وتربحه في نهاية المطاف، متكلاً على مستشارين أقوياء في تبعيتهم. إذ يروي من كان يحضر اجتماعات بيت الوسط لفترة طويلة أن “رئيس الحكومة السابق يطرح فكرته، ويتبارى الجميع على تجميلها وتأييدها. لم يكن هناك فعلياً من يجادل أو يُناقش، حتى لو سمعوا فكرة غير قابلة للتطبيق”. يقول هؤلاء إن “الحريري عنيد جداً ولا يرضى أن يستمع إلى من يخالفه الرأي”.
بين عامي 2014 و2016، تسابق كُثر إلى ميشال عون، بينهم مثلاً نهاد المشنوق، الذي أتى به الحريري نائباً عن بيروت ومن ثم وزير داخلية لاحقاً. أيضاً، بعد الأرثوذكسي، خطى سمير جعجع، حليف الحريري، مُنفرداً إلى داخل الطائفة، أقفل الباب عليه ومضى إلى تفاهم معراب. مرة أخرى “وجد سعد نفسه أمام حليف يتركه ليحقق مصالحه”، كما يصف من حوله الواقع. لماذا يفعلون هذا؟ لم يستوعب الحريري طيلة تلك الفترة أن الطيبة والرعونة لا تُنتج زعامة. لم يتعلّم. قرر أن يذهب أبعد من حليفه المسيحي، فهو الزعيم السني الذي بإمكانه تأمين وصول الزعيم المسيحي إلى بعبدا. تولّى نادر الحريري أخذ المبادرة، وبعد فترة، خرج التفاهم الرئاسي إلى العلن، حلم ميشال عون يُحققه سعد الحريري بكامل إرادته. في تشرين الثاني عام 2016 وبعد انتخابه رئيساً للجمهورية، كلّف عون الحريري تشكيل الحكومة، لندخل مرحلة “العهد القوي”، مرحلة لم يُدرك رئيس حكومتها أنها ستكون أسوأ ما يمرّ على لبنان. رآها آنذاك خلاصاً، هذا أيضاً يندرج تحت خيار سوء الإدارة، أو الرد المُتسرع.
الالتصاق بـ”العهد القوي”
دخل إلى العهد القوي وهو يعتقد أنه انتصر وحقق تسوية ستعيش كثيراً. لم يتنبه أنه بهذه التسوية قد دخل وكراً من حلفاء جدد، أسوأ بكثير مما عهده مع حلفائه السابقين. ما حصل معه في السعودية (2107)، جعله يرتمي أكثر فأكثر في أحضان خصوم الأمس. رأى أن حلفاءه السابقين تخلوا عنه. وسمع أنهم باعوه عند أول مفترق طرق. ماذا فعل؟ التصق أكثر بالعهد القوي ومن معه. ترك لجبران باسيل أن يسرح ويمرح كما يشاء. تركه ليكون رئيس حكومة يُفصل ما يشاء ساعة يشاء، ويقول وبكل صراحة إنه “يسترجع صلاحيات رئاسة الجمهورية”. كان الحريري يعتبر أن الطائف هو الشيء المُقدس، لكنه لم يكترث حين ضُرب الطائف أكثر من مرة. غضب على جعجع، فذهب إلى تسوية كادت أن تُنهيه. ثم، وافق على قانون انتخاب يُعطي حليفه المسيحي الجديد وحليفه المسيحي القديم الكثير، من حسابه، ولم يتنبه لما هو فاعل. يلوم الآخرين على هذا الأمر. لعلّه اعتبر أن المسؤول فقط عن هذه الخسارة هو ابن عمته نادر، وهنا أيضاً عودة أو استمرار بالرعونة نفسها التي طبعت مراحل كثيرة من حكمه.
ثلاث سنوات من “العهد القوي” الذي آمن به الحريري لفترة طويلة، كانت كفيلة بأن تقضي على أي أمل تبقى بقيامة هذا البلد. خاض الحريري الانتخابات عام 2018 ليُطبق “سيدر” ويُخرج لبنان من أزمته، أو هكذا اعتقد، فخرج منها خاسراً لحوالى نصف عدد النواب الذي كان لديه، وفاجأه حلفاؤه الجدد بما هو متوقع للجميع إلا هو: عرقلة مشروعه. وفي خضم كُل هذا، كان من حوله يتفننون بابتزازه، وآخرون يمارسون فسادهم تحت غطاء انتمائهم إلى تياره السياسي وبعضهم شغل مواقع حساسة وزارية وإدارية، وهو في مكان ما تعامى عنهم، وكثيراً.
أتت ثورة 17 تشرين. كانت فرصة سعد الحريري ليهرب من وزر ما اقترفه. انتظر أكثر من 12 يوماً لكي يستقيل. كان بإمكانه أن يخرج بشكل مغاير، لكن على الرغم من تأخره، لم يتعرض لكثير من الانتقادات كما كان الواقع مع جبران باسيل. تسويته الرئاسية جعلت الناس تنتفض ضد كُل النظام السياسي ولعلّ هذا أهم ما حصل أو ما فعله، ولكن طبعاً عن غير قصد. خدمته الثورة وهو يعترف بذلك كما يقول المقربون منه، حررته من كل هذا العبء الذي جناه على نفسه. بإمكانه الآن أن يهدأ ويعيد لملمة صفوف تياره.
اليوم، وبعد 15 عاماً من اغتيال والده، يُدرك الابن جيداً أن ما فات قد فات، وأن كل الخسائر التي حصلت لا يُمكن تغييرها، ولكنه لا يُريد أن يستسلم، طموحه السياسي لا يزال موجوداً، فماذا سيفعل؟ يقولون في بيت الوسط إن “ما قبل 14 شباط 2020 لن يكون كما بعده. الحريري 2020 لن يكون بأي شكل شبيه الحريري طوال 15 عاماً. مرحلة المراجعة بدأت وهناك الكثير سيظهر إلى العلن قريباً وتباعاً. خيوط المرحلة المقبلة سيرسمها الخطاب”.
صفات لا يمتلكها
إلى الآن يبدو عنوان هذه المرحلة الموعودة، تقييم كُل ما فات. والمدخل إلى السياسة من جديد سيكون بإعادة ضرب ما بُني على أساسه التفاهم الرئاسي، أي معركة الحريري ستكون مع العهد القوي الذي ساهم بوصوله. كلام قاس وحاد سيُقال في هذا الخصوص من بيت الوسط. لكن السؤال، هل المعركة هي فقط مع ميشال عون؟ ماذا عمّن يدعمه؟ يقول المقربون منه إن “من أوصلنا إلى هذه المرحلة هو جبران وعمّه وعليهم أن يتحملوا المسؤولية، أما الثنائي الشيعي فلا نعتقد أنهم متمسكون بجبران كما يعتقد البعض، بل على العكس”. في هذا السياق، تقول الأوساط إنه “في كل المرحلة الماضية، لم يُخطئ الثنائي معنا أبداً، بل على العكس كانوا صادقين بنواياهم”. انتهت الخصومة؟ “بالإمكان القول إن خلافاتنا معهم كبيرة في أكثر من ملف، ولكن هم بحاجة لنا، أي العلاقة هي علاقة مصالح متبادلة، علاقة إيجابية وليس العكس”.
الحليف الوحيد إلى الآن لسعد الحريري هو وليد جنبلاط (الذي طبعاً سبق الحريري بفتح النار على عون)، ولكن اليوم بالنسبة له لا شيء ثابتاً. يحاول من هو على صلة به أن يوصل رسالة مفادها أن “أي تحالف اليوم سيكون مبنياً على أسس واضحة ومتينة، وإلا فلا تحالف مع أحد”. تتجهون إلى تكوين معارضة بناءة كما يقول الحريري، عدا جنبلاط مع من تلتقون؟ “نلتقي مع من يُشاركنا خياراتنا”. القوات؟ “لا تواصل إلى الآن ولكن منفتحون كثيراً بشرط أن لا نُعامل كما عوملنا في المرحلة الماضية”.
ماذا عن الثورة؟ يقول سعد الحريري إنه مع الناس. الأيام المُقبلة ستُثبت صحة هذا القول من عدمه. النية لمحاسبة الفاسدين موجودة، ولكن أيضاً هذا سيكون تحت الاختبار. خطابات كثيرة قالها الحريري وقيل فيها وعنها إنها مفصلية لكنها لم تنتج شيئاً. كانت الكلمات تُرمى يميناً ويساراً وتبقى الأفعال كما هي. ما الذي سيتغير اليوم؟ قد تكون ثورة 17 تشرين بمثابة تحذير أولي بضرورة التغيير، كُل هذا رهن ما سيفعله الحريري مستقبلاً.
خسر سعد الحريري كثيراً طوال 15 عاماً. لم يعد بالإمكان استخدام دماء والده حتى لو المتحمسين إلى جانبه يفعلون ذلك. لا مجال بعد الآن لأي دعسة ناقصة. كُل إرثه وإرث والده على المحك. نسخته الجديدة ستحدد ما إذا كان سيحيا بعد كل هذا التخبط، أم لا. تاريخه لا يخدمه كثيراً، حلفاؤه لم يخدموه كثيراً، الدول الصديقة لم تخدمه كثيراً، رؤيته لم تخدمه كثيراً، هو لم يخدم نفسه كثيراً. سينهض؟ هو بحاجة لكثير من الحظ، الحنكة، الذكاء، الخبث. صفات تبين أنه لا يمتلك معظمها، وطبعاً من حوله لا يمتلكون شيئاً منها. من حوله؟ بإمكانه أن يبدأ من هنا مثلاً. أكثر من ذلك، شعاره بعد 15 عاماً من اغتيال والده، “رفيق الحريري من جديد”. الشعار لا يُبشر بتغيير، بل العكس تماماً.