في الرابع من نيسان الماضي جمعت لجنة الأشغال النيابية جبهتي المعترضين على إقامة سدّ بسري والمدافعين عنه في قاعة واحدة، في حينه علا الصراخ حتى ملأ أرجاء البرلمان، الخبراء وأهل القانون المعترضون قدّموا دراساتهم للنواب، أظهروا خلالها خطورة المضي بالسد المدّمر للبيئة وعدم جدواه في تأمين المياه.
في التوقيت نفسه أي في نيسان الحالي تجاهلت الحكومة كلّ الدراسات والإعتراضات، وخرجت على اللبنانيين المحجورين في منازلهم، لتزفّ إليهم خبر سيرها بمشروع سدّ بسري وملايينه، في زمن لا يسمع فيه فقراء البلد وما أكثرهم سوى صدى صرخات جوعهم، ضاربةً عرض الحائط بالطعون المقدّمة أمام مجلس شورى الدولة.حكومة لبنان التي تتمسّك اليوم بإنفاق 700 مليون دولار على المشروع، هي نفسها التي أعلنت إفلاسها قبل أسابيع ووقف سداد مستحقاتها، وهي نفسها التي تطرق أبواب الدول المانحة لتستجدي دعمًا ماليًا يُعينها في حربها على وباء كورونا، وفي أزمتيها المالية والإقتصادية.
قرار الحكومة شكّل صدمة مزلزلة في أوساط المجتمع الأهلي، وبصرف النظر عن التوقيت الخاطىء لصرف الملايين في زمن الجوع والعوز، والفشل الفاقع في ترتيب الأولويات، للمعترضين دراساتهم وطعونهم وفصول نضالهم ومعاركهم على جغرافيته الآخاذة مع السلطة بكلّ مكونات وأحزابها المتحمّسة للسدّ. وما تغير بين نيسان الماضي والحالي هو موقف الحزب التقدمي الإشتراكي من مشروع السدّ، بحيث تحوّل من مؤيّد إلى معترض وبشدّة، يؤّكد اليوم أحد نواب كتلته الدكتور بلال عبد الله عبر ” لبنان 24″ أنّ المشروع لن يمر، وأنّهم سيتصدّون له بكل الوسائل الديمقراطية المتاحة.
ما الذي تغير ولماذا؟
يجيب عبد الله “تجاوبنا مع إرادة الناس، استمعنا إلى رأي المجتمع المدني، إطلعنا على الدراسات والمؤشرات التي تحدثت عن إشكالية علمية في كمية المياه التي ستتجمع، وهناك أراضً زاحلة وقرى بكاملها ستكون مهدّدة، فاقتنعنا بمخاطر السدّ وعدم جدواه في تأمين المياه لبيروت، لاسيّما بعدما تبين وجود مياه جوفية. قرار الحكومة غير صائب بالتوقيت وبالمضمون، ولم نعترض على المشروع فحسب بل قدّمنا اقتراح قانون إلى المجلس النيابي لتحويل منطقة سد بسري إلى محمية طبيعية”.
يضيف عبد الله “الموضوع أضحى مسألة رأي عام، والمنطقة تشكّل أكبر مدى حيوي أخضر في لبنان بتنوعها البيولوجي وبكنوزها الأثرية، وسنكون أمام خيارين إمّا تحويل المنطقة إلى محمية طبيعية انسجامًا مع اقتراحنا، أو تحويلها إلى مساحة للإنتاج الزراعي، بحيث يستثمر المزارعون الأراضي التي تمّ استملاكها”. وعن كيفية تأمين المياه لبيروت يجيب عبد الله “هناك بدائل وخيارات أخرى منها سدّ جنة فضلاً عن المياه الجوفية الموجودة في بسري”. عبد الله يستغرب الإصرار الحكومي على إنفاق 700 مليون دولار على المشروع في هذا التوقيت، مقترحًا تحويل المبلغ للإنفاق في دعم الناس في مواجهة كورونا وفي تحريك الدورة الإقتصادية “فهي ليست المرة الأولى التي تغيّر فيها الدولة وجهة إنفاق قرض من البنك الدولي”.
المحامي سليمان مالك وكيل قضية سدّ بسري وبعد منح حكومة حسان دياب الغطاء السياسي للسير بالمشروع، يراهن على نزع الغطاء القانوني عنه من قبل مجلس شورى الدولة، الذي عليه أن يبتّ بمراجعات الإبطال الثلاثة التي ّ تقدّم بها مالك عام 2015 طعناً بمرسوم إقرار المشروع، والتي تبيّن عدم وجود أيّ منفعة عامة له، فضلًا عن أخطاره كونه يوجد ضمن منطقة فوالق زلزالية اهمها فالق روم-عازور المدمّر غير الخامد والذي يتحرك باستمرار.
بعدها قدّم مالك لوزارة البيئة مراجعة لوقف المشروع انطلاقًا من إنتهاء صلاحية تقرير الأثر البيئي والإجتماعي في حزيران من العام 2016، ولم تتم المباشرة بالاعمال خلال مدة السنتين من تاريخ إنجازه في حزيران 2014، ما يحول دون السير في التنفيذ، لاسيّما أن التنفيذ بدأ في 31 أيار من العام 2019، وهذا ما يجعل من صاحب المشروع وكل من يقوم بأعمال على الارض مرتكب لجرائم جزائية. إنقضاء المهلة القانونية أمر تجاهلته الحكومة الحالية تماماً كما فعلت السابقة، وكان مالك قد تقدّم بشكوى جزائية في تموز عام 2019 لا زالت عالقة. علمًا أن السير بالمشروع يتطلّب إعداد تقييم جديد يأخذ بالإعتبار التغييرات التي طرأت على واقع المرج، ومنها انخفاض منسوب نهر بسري، وهو السبب الأساسي لجدوى السد، كما أنّ كميّات المياه في مجرى النهر، خلال السنوات الماضية، أثبتت أنها غير كافية ولا فائض لنقله لبيروت الكبرى. كما أنّ هناك تقارير صادرة عن المصلحة الوطنية لنهر الليطاني تؤكّد أنّ الوصول إلى حجم المياه المتوقعة من المشروع سيستغرق 7 سنوات، دون احتساب التبخر والتسرب.
ابتكار العراقيل
هل يمكن الرجوع عن التنفيذ بعدما حصلت الإستملاكات؟
يجيب مالك “دفعوا للأهالي جزءًا من التعويضات وبقي الجزء الأكبر، وللدولة الحق في تعديل العقود، وبالتالي حجّتهم بالإستملاكات ضعيفة، ومن يريد حلا لا يبتكر العراقيل، وبكل بساطة يمكن للناس أن تسترجع أراضيها، أو أن تنشىء الدولة محمية طبيعية بالتنسيق مع الجهات والبلديات، تمامًا كاقتراح اللقاء الديمقراطي الذي كان يقف إلى جانب المشروع بموقف متشدّد، وبعدما تبين له عدم جدوى المشروع وأخطاره المدمّرة بناءً على الدراسات،أخذ موقفًا علنيًا واضحًا ضدّ المشروع، وعلى الجميع أن يحذو حذو الإشتراكي بهذا الإتجاه”.
عن المخاطر لا بدّ من الإشارة إلى الدراسة التي قدّمها الباحث الجيولوجي في الجامعة الأميركية البروفسور طوني نمر إلى المجلس النيابي، في نيسان الماضي خلال مشاركته في لجنة الأشغال، بحيث حذّر من أن سد بسري سيؤدي حتماً إلى زلزال كبير، موضحًا أنّ وضع كمية هائلة من المياه (125 مليون متر مكعب) في نقطة واحدة، وهي نقطة حساسة جيولوجياً يمر تحتها فالقان زلزاليان روم وبسري، سيكون لها تأثير مباشر على تحفيز الزلازل عبر نظام فوالق دقيق يمكن أن يؤدي إلى توليد زلزال كبير. هذا فضلًا عن تدمير 6 مليون متر مربّع من المناطق الطبيعيّة والأراضي الزراعيّة، وتفكيك أكثر من 50 موقعًا تاريخيًا، منها كنيسة مار موسى والقلعة الرومانية الأثرية بين ملتقى النهرين والباروك وجزين، وكنيسة سيدة بسري العجائبية، وكانت محطة في رحلة يسوع المسيح، وعدد من النواويس.
ألا تستحق كل هذه المخاطر إعادة النظر بالمشروع؟ ألا يشكّل الرجوع عن الخطأ فضيلة؟ كيف لحكومة الإختصاصيين أن تتجاهل دراسات الإختصاصيين الحقيقيين وتستمر بالنهج الفاسد المدمّر نفسه؟ والأهم ماذا ينتظر مجلس شورى الدولة ليقوم بعمله ويبتّ في الطعون؟