إلتأمت لجنة المال والموازنة للإستماع إلى وزيري المال والإقتصاد حول الخطة الحكومية، وإلى مقاربة كل من مصرف لبنان وجمعية المصارف والهيئات الإقتصادية. كل فريق قدّم رقمًا للخسائر يختلف عن الآخر. مصرف لبنان قدّر قيمة خسائره بـ 42 ألف مليار، في حين أنّ الحكومة قدّرت خسائر المركزي بـ 66 ألف مليار. مجمل الخسائر قدّرتها الحكومة بـ 241 ألف مليار، فيما قدّرتها جمعية المصارف وجهات مالية أخرى بـ 104 الآف مليار. والفرق بين رقم الحكومة ورقم المصارف هو 137 ألف مليار، أي بتباين لامس حدود الـ 60 %. أمام هذه الفجوة المالية الكبيرة ضاعت لجنة المال، فقال رئيسها النائب ابراهيم كنعان “ما فينا نكفي هيك، مطلوب توحيد الأرقام”، ليصرخ نائب رئيس المجلس النيابي إيلي الفرزلي “هالفرق بيودّي روس كبيرة على الحبس”.
هذا التباين الكبير بالأرقام لم يعد مقتصرًا على نقاش أو سجال داخلي، بل ذهبت به الحكومة إلى صندوق النقد، لتكشف نفسها، وتنشر غسيلنا أمام المانحين جميعًا، وهم الذين اشترطوا إجماعًا لبنانيًا حول الخطة الحكومية. وربما ما قاله النائب فادي سعد عن “عصفورية الأرقام في جلسة لجنة المال”، يكشف حالنا المبعثر المنقسم في بيتنا الداخلي وجدرانه المتصدّعة. زميله النائب جورج عقيص استغرب في حديث لـ “لبنان 24” كيف أطلّ عليهم المدير العام في وزارة المال آلان بيفاني، طالبًا يومين للعودة بإجابات حول التباين بالأرقام، في وقت بدأت الحكومة بالتفاوض مع صندوق النقد، سائلًا عن تأثير ذلك على عملية التفاوض.
النائب مروان حمادة لـ “لبنان 24” أنتقد كيف تدرّجوا من وصفهم لصندوق النقد بالشيطان الرجيم إلى اعتباره الملاك الرحيم “طالبين 10 مليار من الصندوق؟ مع هيك حكومة وهيك خطة إذا شافوا مليار واحد بيكون منيح”. أضاف حمادة منتقدًا تحميل المسؤولية لجهة واحدة “يريدون تحميل الشعب والمودعين والمصارف والإقتصاد اللبناني بكلّ قطاعاته كلّ المسؤولية، وأن الدولة بكلّ رجالاتها، ونحن منهم، لا علاقة لها، إذن من أقرّ سلسلة الرتب والرواتب؟ أليس كلّ الطبقة السياسية؟ من إلتزم بخطة الكهرباء؟ أليس جبران باسيل وجماعته؟”.
اللافت أنّ الإنتقادات لم تقتصر على الكتل البرلمانية المعارضة، بل النواب الموالون أيضًا صوّبوا على تلك المشهدية، وعندما سألنا النائب غازي زعيتر رأيه أجاب “إذا بحكي بنسف كل يلي عم ينحكى جوا، خليني ساكت”. أمّا زميله سيمون أبي رميا فقال لـموقعنا “مصداقية الدولة على المحكّ. الفارق بالأرقام وصل إلى 60%، وهذا أمر خطير، فكيف سنفاوض المجتمع الدولي بأرقام متباينة، ولا نعرف أيّ رقم هو الصحيح، من هنا وجوب توحيد الأرقام”.
من جهتها النائبة بولا يعقوبيان وصفت التفاوت بالأرقام بالمعيب “وكأننا لا نعرف كيفية إجراء الحسابات”. وفي حديث لـ “لبنان 24” اعتبرت يعقوبيان أنّ القصة أبعد من تباين رقمي “بل أنّ الخطّة الحكومية المرتكزة على الحصول على 11 مليار دولار من “سيدر” و10 مليار من صندوق النقد هي بمثابة أضغاث أحلام”.
يعقوبيان رأت أنّ صندوق النقد وبأحسن الأحوال قد يمنحنا 3,8 مليار دولار وبشروط قاسية جدًا، أما أموال “سيدر” فقط طارت كوننا لم ننجز الإصلاحات المطلوبة، والمجتمع الدولي يتصرف معنا “مثل يلي لاحق الكذّاب على باب الدار، يقول لنا، جيد أنجزتم خطة تتضمن إصلاحات، نفّذوها لتأخذوا الأموال. ولأنّ الإصلاحات تأتي على حساب الطبقة السياسية، فلن تُنفّذ. وعمليًا منذ باريس 1، لبنان يعد المجتمع الدولي بإصلاحات، ولم يطبّق منها شيئًا منذ عشرين عامًا”.
في الشقّ السياسي، ينظر المجتمع الدولي للحكومة الحالية على أنّها حكومة “حزب الله”، وهذا سبب إضافي لعدم دعم لبنان لا بل يردون معاقبته. من هنا طلبت يعقوبيان بمداخلتها أن تنتقل الحكومة إلى الخطّة “ب”، “أي أن ندرك أنّ لا دولار سيضخ من الخارج، وأن نتدبّر أمورنا من دون أموال خارجية، ونؤقلم معيشتنا بنوع من الإكتفاء الذاتي، ونقلب أسلوب حياتنا. الأمر صعب، ولكن أيضًا شروط صندوق النقد قاسية، وستحمّل المواطن المزيد من الضرائب والرسوم، لقاء مبلغ لا يتجاوز ثمن فاتورة فيول”.
أمّا المعضلة الكبرى فتمثّلت بما اقترحته الحكومة من سيناريوهات لسعر الصرف، من احتمال الإستمرار بدعم سعر صرف ثابت، إلى سعر الصرف العائم floating exchange rate إلى التعويم الموجّه managed floating ،أي أن يُترك تحديد السعر لآلية العرض والطلب مع التدخل لإبقائه ضمن حدود معينة “السيناريو الثالث لا يمكن تطبيقه إلا في اقتصاديات كبرى كالصين والهند القادرة على ضخّ دولارات في السوق. بقي حلّان، ترك السعر ثابتًا أو تعويمه، وأيّ مسّ بالسعر الرسمي هو أكبر كارثة ممكن أن تحصل في لبنان، وإعدام لكل الطبقة الوسطى وتلك الفقيرة”.
بالمحصلة لجنة المال أوصت الحكومة بتوحيد الأرقام، ولمساعدتها بالمهمة شكّلت لجنة لذلك. والمفارقة أنّ كلّ تلك التباينات والفجوات في خطّة الحكومة، لم تردع بيفاني عن نقل إعتداد الحكومة بخطّتها وفخرها بما أنجزت، “وهي التي استحقّت إشادة المؤسسات الدولية” كما قال، فيما غاب عن بال بيفاني أنّنا لطالما أنجزنا الخطط والوعود بالإصلاحات طيلة فترة وجوده بمنصبه في وزارة المال، وأبقيناها في أدراج التناسي. فهل ترجئون مشاهد الإعتزاز بالنفس الحكومية إلى ما بعد التطبيق؟